Friday 30 May 2025
كتاب الرأي

محمد آيت حنا: دفاعًا عن المدرسة الحرّة.. أو عن حقّ المجتمع في أن يُنتج الحمير

محمد آيت حنا: دفاعًا عن المدرسة الحرّة.. أو عن حقّ المجتمع في أن يُنتج الحمير محمد أيت حنا

حين كتب غرامشي عن مشاكل جامعتنا منذ أكثر من قرن من الزمان

"إنّ المجتمع كلّه معنيٌّ بأن تكون المدرسة فضاءً لتكوين بشرٍ أكفاء، مهيّئين للقيام بدورٍ فعّال نافعٍ للجميع. ولا مصلحةَ له البتّةَ في أن تتحوّل المدرسةُ إلى موزّعٍ لشهاداتٍ بخسة."

-أنطونيو غرامشي-

 

في الثالث عشر من أبريل 1917، كتب أنطونيو غرامشي مقالًا في جريدة أفانتي الإيطالية بعنوان: امتيازات المدارس الخاصة (من أجل حرية المدرسة وحرية أن يكون المرء حمارًا). كان غرامشي يومها يردّ على رجال الدين الذين نشروا رسالة مفتوحة دفاعًا عمّا أسموه "المدرسة الحرّة"، أي المؤسسات التعليمية الكاثوليكية الخارجة عن رقابة الدولة. ولأنّ النصّ يبدو اليوم، وكأنه مكتوبٌ عن فضيحة تعليمية حديثة، مثل ما بات يشهده  المغرب من فضائح في الجامعة، من قبيل "الماسترات المغشوشة"، و"بيع الشواهد الجامعية"،  فإنّ إعادة قراءة مقال غرامشي تمنحنا أداة تحليل دقيقة، لا لمجرد فهم ما حدث فحسب، بل لاستخلاص البنية العميقة التي تكرّر إنتاج الفضيحة نفسها عبر السياقات.

 

في الحالة التي كتب عنها المفكر الإيطالي، وفي حالة ما نعيشه اليوم في مؤسساتنا التعليمية العليا، يدور الجدل حول الشهادة:

 

من يملك حقّ منحها؟ ومن يراقب شروط الحصول عليها؟ وهل يمكن أن نفرض على طالبٍ أن يكدّ ويضحي ويجتهد، ونغض الطّرف عن طالبٍ آخرَ لا يملك إلّا الوساطة أو المال أو الاسم العائلي المناسب؟

 

إنّ السؤال لا يهمّ المدرسة فقط، بل المجتمع برمّته، لأنّ الشهادة الدراسية ليست وثيقة فردية، بل قيمة تداولية. وكما أنّ العملة المزوّرة تُخلخل السوق، فإنّ الشهادات المزوّرة تُخلخل النظام الاجتماعي، وتعيد إنتاج الهرم بالمقلوب: إذ يتقدّم فيه الأقلّ كفاءة، ويُقصى من لا يملك سوى اجتهاده. ولأنّ الشهادة، كما العملة، لا تُحدَّد قيمتها بحبرها، بل بالثقة الجماعية فيها، فإنّ انهيار تلك الثقة يعني، كما أشار غرامشي، انهيارًا في نظام توزيع الأدوار الاجتماعية، وتحوّلًا للمدرسة من فضاء للمعرفة، إلى "ماكينة لإنتاج الحمير"، معترفٍ بهم رسميًّا، ومرشّحين لشغل المناصب العمومية.

 

ولأنّ المجتمع، كما يقول غرامشي، هو من "ينزف دمًا لتغطية نفقات بيروقراطية متضخّمةٍ وكسولٍ"، فإنّ له وحده حقَّ الإشراف على منح الشهادات، لأنّ أيّ تراخٍ في هذا الإشراف يعني ببساطة خلق طبقة طفيليّة تتسلّل إلى مفاصل الدولة، وتعيش على مجهود الآخرين. هذا ما يجعل من "المدرسة الحرّة" لا رمزًا للحرية، بل آليةً لتثبيت الامتيازات، وتعميم الغشّ، ومنح التفوّق لمَن لا يستحقّه.

 

ما الفارق بين أن تزوّر ورقة نقدية، وبين أن تُمنح شهادة جامعية بلا استحقاق؟ الفارق تقنيّ فقط. الأولى جريمة يُعاقب عليها القانون، والثانية اختراقٌ "مُقونن" للمجال العمومي، قد لا يضبطه أحد، لكنه يُكلّف الجميع كلفة عالية ودائمة. حين يصبح الحصول على شهادةٍ مرموقة مسألة وساطة أو قرابة أو ولاء حزبي أو مذهبي، فإنّ الشهادة تتحوّل إلى سلعة، ويغدو التعليم سوقًا سوداء. والأسوأ أنّ التضخّم لا يصيب قيمة الشهادة فقط، بل يصيب الثقة الجماعية التي بُني عليها العقد الاجتماعي، إذ لم يعُد أحد يضمن أن الدكتور الذي أمامه، ليس في الواقع سوى نسخة محسّنة من "حمار العائلة"، كما سمّاه غرامشي تهكّمًا.

 

حين تُخترقُ الجامعة، والمدرسة عموماً، من طرف تكتلاتٍ تتحكّم فيها، أو تحاول إزاحة الفاعلين الرّئسيين لتحلّ محلّهم، أو على الأقلّ توجّههم (حالة تكتل الكاثوليك غي زمن غرامشي، وتكتّل المال والنّفود والمصالح في زمننا)، يتحوّل التعليم من وسيلة للارتقاء، إلى واجهة للتمييز، واستمرارًا لصراع طبقيّ مقنّع. تُجهِدُ الفتاة في قرية نائية نفسها لتصل إلى ماستر في القانون، وتقدّم بحثًا جادًّا وتنجح بشقّ الأنفاس، لتُفاجأ بمن يشاركها المقعد والرتبة، لا لشيء سوى لأنّه ابن فلان، أو لأنّ "حزب العائلة"، قد حسم في لائحة الانتقاء قبل إعلان المباراة.

 

يقول غرامشي: "هؤلاء لا يكتفون بسكّ عملةٍ تمرّ عبر قنوات الدولة، بل يريدون أيضًا أن يسُكّوا عملة مزوّرة، كثيراً من العملة المزوّرة، ليغرقوا بها السوق كلّها". أفلا تصف هذه العبارة، بدقّة مذهلة، حالَ التعليم العالي حين تُمنح شهادات ماستر ودكتوراه في مؤسسات خاصة أو شبه رسمية، لا تخضع لأيّ رقابة فعلية، وتسوَّق نتائجها في سوق الشغل العمومي، كأنّها شهادات أصيلة؟

 

المشكلة إذن ليست في حالة فردية، بل في نظام كامل؛ في دولة لا تزال تتساهل مع من يمنحون الشهادات بلا ضمانات، وتمنحهم الحق في ولوج نفس السوق التي يدخلها من اجتهدوا فعلاً. هنا، تكون المدرسة الحرّة، لا فضاء للحرية، بل آلية لفرض امتيازات طبقية جديدة، مغلَّفة بخطاب ديني أو إيديولوجي، بينما جوهرها الاقتصادي واحد: ضمان توزيع زائف للثروة والسلطة والكفاءة.

 

في النهاية، يكتب غرامشي محذرًا: "حين تُمنَح الشهادات بسخاء لمن لا يستحقها، فإنها لن تؤدي إلا إلى تضخيم البيروقراطية الطفيلية، وتعميق الإحساس بالضيق في الحياة العامة". أما نحن، بعد أكثر من قرن، فلا نملك إلا أن نعيد الصياغة: حين تُشرّع الشهادات الزائفة، يصبح الحمير دكاترة، وتُبنى بهم مؤسساتٌ كاملة، يعلّمون فيها غيرهم كيف يكون الحمار صالحًا للترقّي الاجتماعي.

 

ما الذي يجعلنا نعود إلى غرامشي اليوم؟ لا لأنّه من الماضي، بل لأنّ ما وصفه في زمنه أصبح بَنيةً ثابتةً في حياتنا: تسليع المعرفة، تزوير الشهادات، واحتكار الرمزية الأكاديمية كما تُحتكَر الثروة. في المغرب، لم تعد الشهادة دلالةً على الكفاءة، بل أضحت، في كثير من الحالات، أقرب إلى ورقة نقدية مزوّرة تُتداول في سوقٍ ملوّث، وتُمنح لمن يمتلك شبكة النفوذ لا من يمتلك العقل أو الجهد.

 

واقعة "الماسترات المزورة" ليست استثناءً، بل عرضٌ من أعراض مرض بنيوي: تضخّم عدد الشهادات يقابله تدهور في القيمة الحقيقية لها، كما يحدث مع التضخّم النقدي حين تُغرق السوق بأوراق لا سند لها. نعيش اليوم وضعًا تَنهار فيه القيمة التداولية للشهادة، ويصبح الحصول عليها مجرّد إجراء إداري لا يُفضي إلى إنتاج معرفة أو تكوين كفاءة، بل إلى إعادة إنتاج الفشل.

 

لكن العملة الزائفة ليست إلا الوجه الأبسط من المعضلة، الوجه الأوضح. فخلفها تستتر بنية السوق، وسلوك التداول، ومعادلات العرض والطلب، ومواقع المشتري والبائع. شهادة زائفة تعني، في العمق، مؤسسة زائفة تمنحها، وتمنح بها المشروعية لمن لا يستحق، وتنتج بذلك شخصًا لا يملك كفاءة، ولا يملك من صفات "الإطار" إلا لقبه الإداري. إنه كما وصفه غرامشي، بدون أي مواربة، "حمار الامتياز"  الذي لا تنقصه الشهادة الرسمية، بل تنقصه الكفاءة العقلية.

 

والنّتيجة: سوقٌ زائفة، لا قيمة فيها للشهادة، لأنها لا تعكس أي خبرة ولا أي كفاءة؛ بل تُنتج نظامًا زائفًا للترقّي الاجتماعي. فإذا لم تكن الشهادة مرآة للجهد والمعرفة، وأصبحت وسيلة للتموقع، فإنّ المجتمع بأكمله ينزلق نحو إعادة إنتاج الرداءة تحت غطاء قانوني، كما يُعاد إنتاج النقود الزائفة في ظلّ مؤسسات مالية متواطئة.

 

لقد كان غرامشي واعيًا بخطورة هذا الانفصال بين الشكل والمضمون: بين الورقة التي تُمنح، والجهد الذي لا يُبذل. لقد رأى أن أخطر ما يمكن أن تفعله جماعة مهيمنة هو تزوير نظام التبادل الرمزي، تحويل العملة إلى "نفاية"، والشهادة إلى مجرّد حبر على ورق، وإغراق الفضاء العام بامتيازات وهمية تُوزَّع على الزبائن لا على المواطنين.

 

ولهذا فإنّ الدفاع عن المدرسة، عند غرامشي، هو دفاع عن المجتمع نفسه. لأنّ المدرسة ليست مجرّد مرفق خدماتي، بل هي آلة لإعادة الإنتاج، إمّا أن تُعيد إنتاج الكفاءة، وإمّا أن تُعيد إنتاج الرداءة. وفي المغرب، حيث يتقاطع منطق الكهنوت القديم بمنطق الزبونية الحديثة، تصبح معركة الشهادة هي معركة القيمة، معركة النقد، معركة الكرامة.

 

وفي عصر الذكاء الاصطناعي، تتضاعف الحاجة إلى هذا النقاش: فإذا بات بإمكان الآلة أن تكتب، فمن يضمن أن يحمل الإنسان شهادةً عن جدارة؟ وإذا أمكن شراء الشهادة كما تُشترى الأصوات، فمن يحمي القيمة الرمزية للمعرفة؟

 

ربّما لا نملك بعدُ الأدوات كلّها لنقد هذا الواقع، لكنّنا نملك هذا: وعيًا متراكمًا يُنبّهنا أنّنا أمام لحظةٍ حاسمة. إمّا أن نعيد للشهادة معناها، وإمّا أن نعيش في مجتمعٍ تُدار فيه المؤسسات، كما تُدار الأسواق الرمادية، وتُقاس فيه القيمة لا بما تعرف، بل بمن تعرف.

وهذا هو الدرس الأهم من غرامشي: أن نفكّك البُنى الرمزية التي تنتج الزيف، لا أن نكتفي بوصف أعراضه.

محمد أيت حنا، كاتب و مترجم