في كل ديمقراطية حقيقية، لا يُنظر إلى تمويل الدولة للأحزاب السياسية كمنّة أو عبء، بل كرافعة ضرورية لضمان عدالة التنافس، واستقلال القرار الحزبي، وتعزيز الوساطة بين المواطن ومؤسسات الحكم. فمنذ أن طرح علماء السياسة سؤال التمثيلية والشرعية، كان واضحًا أن الديمقراطية لا تُبنى فقط عبر صناديق الاقتراع، بل تحتاج إلى فاعلين حزبيين منظمين، قادرين على تأطير المواطنين، وصياغة البرامج، وتحمّل المسؤولية.
وهكذا، يرى جون رولز أن تحقيق العدالة السياسية يقتضي إزالة الفوارق الفجّة في القدرات المالية بين الفاعلين السياسيين، ضمانًا لتعددية حقيقية لا تحتكم فقط للثروة أو النفوذ. ومن جهته، اعتبر روبرت دال، أحد أبرز منظّري الديمقراطية التعددية، أن دعم الدولة للأحزاب ضرورة لحماية التوازن بين المصالح، ومنع هيمنة رأس المال على الحياة السياسية.
هذا التأسيس النظري وجد ترجمته في دساتير وتشريعات العديد من الدول التي تبنّت تمويلًا عموميًا مشروطًا، ليس لحماية الأحزاب، بل لحماية الديمقراطية نفسها.
ففي ألمانيا، يُمنح الدعم المالي للأحزاب بناءً على عدد الأصوات المحصّل عليها، وعدد النواب، ويتم ربطه الصارم بالشفافية والتدقيق المالي، تحت طائلة العقوبات. أما في فرنسا، فيُجبر القانون الأحزاب على التصريح بكل سنتيم، وكل مخالفة تُقابل إما بالحرمان من التمويل أو بمتابعات قضائية. وفي السويد، يُشترط أن تُبيّن الأحزاب كيفية توظيف الدعم لخدمة الحياة الديمقراطية، لا لتمويل نشاطات غامضة أو صراعات داخلية.
ومناسبة هذا الكلام صدور تقرير جديد عن المجلس الأعلى للحسابات، يتعلّق بتدقيق حسابات الأحزاب السياسية برسم سنة 2023، ويفحص مدى مطابقة نفقاتها المصرح بها للدعم العمومي المخصّص لها. وبينما سجّل التقرير تطورًا ملموسًا في بعض جوانب التدبير المالي، أعاد إلى الواجهة مفارقة مزمنة تتعلق باستمرار عدد من الأحزاب في عدم تقديم حساباتها، أو تقديمها خارج الآجال القانونية، أو تضمينها وثائق غير دقيقة وغير مستوفاة.
ورغم التبريرات المعتادة حول غياب الدراية المحاسباتية و"ضعف الكفاءات التقنية"، إلا أن المسألة تطرح سؤالًا سياسيًا قبل أن تكون تقنية: كيف يُعقل أن حزبًا يتنافس على تسيير الشأن العام محليًا أو وطنيًا، يعجز عن ترتيب دفاتره المحاسباتية، أو يتعامل مع المال العام بخفة أو ارتباك؟ وهل يُعقل أن يطمح حزب إلى تدبير مليارات في الجماعات أو الوزارات، ويبرّر اختلالاته بغياب الخبرة التي "لا تتوفر إلا لدى الشركات أو الإدارة العمومية"؟
هذا في الوقت الذي ينصّ فيه الدستور على دور الحزب كفاعل يُفترض أن يقود التنمية والتخطيط والاستثمار! أليست هذه المفارقة وحدها كافية لسحب الثقة، لا فقط في الأرقام، بل في أهلية القيادة ذاتها؟
إن التمويل العمومي ليس مجرد غلاف مالي يُصرف باسم الديمقراطية، بل هو تعاقد أخلاقي بين الدولة والحزب، يفرض مقابل التمويل: الشفافية، والكفاءة، وربط المسؤولية بالمحاسبة. وكل تهاون في هذا الجانب لا يسيء فقط إلى صورة الحزب، بل يهدر ثقة المواطن في اللعبة السياسية برمّتها.
فعندما تتحوّل شرعية الدعم إلى محنة في التدبير، تكون الأزمة أعمق من الأرقام، وأخطر من مجرد اختلالات مالية.