تجسد ظاهرة عزيز أخنوش تحولا بنيويا في ملامح الحقل السياسي المغربي، يتجاوز الأدوار التقليدية لرؤساء الأحزاب أو رؤساء الحكومات. فالرجل لا يندرج ضمن النمط الكلاسيكي للقيادة الحزبية، بل يعكس نموذجا حيث تتداخل الموارد الاقتصادية والسلطوية والرمزية لإنتاج نمط جديد من الزعامة.
فمنذ توليه رئاسة حزب التجمع الوطني للأحرار، تمكن أخنوش من تحويل هذا التنظيم، الذي كان يصنف تاريخيا ضمن "الأحزاب الإدارية" او ما يسميه الدكتور عبد اللطيف اكنوش "ب" احزاب الصرف"، إلى منصة لتوسيع النفوذ، وإعادة توزيع الأدوار داخل النسق السياسي . وقد ساعده على ذلك رأسماله الاقتصادي الوازن، وشبكة علاقاته العابرة للقطاعات، وقدرته الفائقة على إدارة الصورة والاتصال، مما مكنه من توسيع دائرة التأثير السياسي خارج الحدود الحزبية التقليدية.
فأخنوش لا يشتغل داخل منطق حزبي صرف، بل يستند إلى مشروع سياسي ممأسس على الولاء الشخصي والانخراط البراغماتي، منا أتاح له احتواء نخب سياسية وإدارية من خارج تجمعه الحزبي، وتحويلهم إلى أدوات تنفيذية ضمن رؤيته العامة. ويتجلى ذلك في كون بعض الوزراء في حكومته لا ينتمون رسميا لحزبه، لكنهم يشتغلون ضمن نسق سياسي موحد، تحكمه إرادة مركزية واحدة.
هذا التمركز الأحادي للسلطة التنفيذية حول شخص واحد، أفرغ التحالف الحكومي من مضمونه التداولي، وكرس نزعة الهيمنة التنظيمية والوظيفية داخل الحكومة، وهو ما انعكس أيضا على طبيعة العلاقة مع المعارضة البرلمانية.
فقد برزت قدرة أخنوش على تحييد كل المبادرات التشريعية والرقابية ذات الطابع الإحراجي، كالمطالبة بلجنة تقصي الحقائق في ملف المحروقات، أو ملتمس الرقابة لإسقاط الحكومة ـ والتي وإن لم تبلغ النصاب القانوني، فإن رمزيتها السياسية كانت كافية لخلق أزمات مؤقتة ـ ، وذلك عبر توظيف شبكة النفوذ السياسي والمؤسساتي والإعلامي التي راكمها، في ما يشبه عملية تدبير محكم للأزمات الناعمة دون الانزلاق إلى المواجهة الصدامية.
ويعد أخنوش نموذجا لما يمكن نعته بـ "السلطة المركبة"، وهي سلطة تتأسس على تداخل ثلاثة أنماط من القوة:
القوة الاقتصادية المستندة إلى شبكة مقاولاتية كبرى تمنحه سلطة تفاوضية ضمن علاقات الدولة والسوق؛
ـ القوة الاتصالية من خلال حضور كثيف في المنصات الإعلامية التقليدية والرقمية، يعيد من خلالها تشكيل الخطاب السياسي عبر التحكم في دوائر الاعلام، ويروج لصورة الزعيم القادر على الفعل والمبادرة؛
ـ القوة المؤسساتية القائمة على ترتيب العلاقات داخل الحقل السياسي والتحكم في التحالفات، وتوزيع الأدوار داخل الحكومة والبرلمان، وتقزيم قدرة الفاعلين الآخرين على المبادرة أو المعارضة الجذرية، ومحاولة تطويع الإدارة العمومية لخدمة المشروع السياسي رغم الممانعة...
وتترجم هذه السلطة المركبة في اشتغاله المبكر على إعادة تشكيل الخريطة الانتخابية المقبلة، من خلال الشروع المبكر في استقطاب مرشحين محليين ووطنيين ذوي حظوظ انتخابية مرتفعة، مستندا في ذلك إلى ما بات يعرف ب"القواعد الضمنية الانتخابات" ، وإلى قراءة دقيقة للخريطة السوسيولوجيا للانتخابات عبر الاستعانة بالعارفين بهذا الحقل، خصوصا في الدوائر التي تعتبر "مفاتيح استراتيجية" للهيمنة على المشهد الانتخابي.
إن هذه القدرة على التوقع والتخطيط، وعلى تعبئة النخب في مناطق النفوذ، تعكس ذكاء سياسيا مركبا، يجمع بين بعد النظر والرؤية الاستراتيجية والفعالية العملياتية.
إن القراءة المتأنية لمسار عزيز أخنوش بعد صعوده إلى هرم السلطة التنفيذية تكشف عن تحول عميق في منطق ممارسة السلطة بالمغرب، حيث لم تعد السياسة قائمة على التنافس الأيديولوجي أو البرامج البديلة، بل باتت مشروطة بمدى القدرة على احتكار أدوات النفوذ وفرض منطق الهيمنة الناعمة داخل المؤسسات او بكلمة واحدة "شرعية الانجاز".
فهذا التحول، وإن كان يعكس نجاعة في تدبير السلطة، فإنه يطرح تساؤلات حول التعددية الحزبية بالمغرب، بمعنى هل انتقلنا من مجرد تعددية حزبية الى تعددية سياسية حقيقية بشرعيات مختلفة، حيث تبدو "شرعية الانجاز" الاكثر حضورا وراهنية.
إن أهم ما يمكن ان يحسب لهذه التجربة السياسية بما لها وما عليها، انها اعادت الروح الى العمل الحزبي من زاوية وظيفة الوساطة ولعب دور "المصفاة" في نقل المطالب بين المجتمع والدولة، وبالتالي فإنها كرست الدور المنوط بالأجهزة الايديولوجية للدولة بتفادي قدر المستطاع توظيف "اجهزة السيطرة"( الأجهزة القمعية للدولة)، فضلا عن التمكن من إعادة رسم توازنات سياسية وهيكلة الحقل الحزبي وفقا لمقاربة برغماتية واقعية تنهل من إرادة تسعى إلى التجميع لا البلقنة.
د مصطفى عنترة، كاتب صحفي.