Monday 28 April 2025
كتاب الرأي

أحمد المطيلي: يسألونك عن الجنون السياسي

أحمد المطيلي: يسألونك عن الجنون السياسي أحمد المطيلي

تعني كلمة الجنون لغة الاستتار واصطلاحا الخلل الذي يصيب شخصا ما فيضطرب تفكيره وإحساسه فيتفوه بأقوال ويأتي حركات وأفعالا تتنافى مع أحكام الفكر السليم وضوابط السلوك القويم. والجنون فنون كما قيل من حيث أنه حالة متشعبة شديدة التنوع مختلفة الأشكال منها الغضب الذي هو شعبة من شُعب الجنون كما في الحديث الشريف. فقد يتفوه الغاضب بكلمة أو يأتي فعلا يورثه ندما شديدا وقد يكون وبالا عليه في حياته وبعد مماته. ومن الجنون ما يأتيه أهل الفن والأدب وأصحاب الفلسفة والعمل وهم صفوة العقلاء فكيف بالغوغاء والدهماء ؟

 

وأما الجنون السياسي فهو إحدى هذه الشُّعب ويتصل كما يدل عليه اسمه بما ينتاب الساسة ولاة وأمراء وملوكا وقياصر وأكاسرة وجبابرة وطغاة وأضرابهم من اختلال في الأقوال والأفعال تنأى بهم عن القول السديد والحكم الرشيد. وتحفل كتب التاريخ بوقائع لا تعد ولا تحصى عن ساسة انتابتهم نوبات انفعالية أو لُوثات عقلية فأصدروا أحكاما وأتوا أفعالا تنسب إلى المجانين. وبما أنهم كانوا موضع تقدير وتبجيل بل تعظيم وتقديس لم يكن ليخطر على بال المحكومين أن ما يفعله قادتهم هو الجنون بعينه فلم يملكوا سوى الامتثال والانصياع والانقياد وهم صاغرون. ولعل فرعون أن يكون إماما للجنون السياسي ومثلا أعلى للجبابرة الذين يطغون في البلاد ويكثرون فيها الفساد. وقد بلغ من الجنون في أقواله وأفعاله وأحواله مبلغا أفضى به إلى إنزال نفسه منزل الربوبية : "فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى" (النازعات : 21-24). وليس أبلغ في الدلالة من أن اسمه اشتق من الفرع وما يعنيه من الزيادة والطول والتفوق والعلو حتى صار عَلَما على التجبر والاستكبار والعلو في الأرض قديما وحديثا. ونحن نعلم أن جنون العظمة -وهو من الاضطرابات العقلية المعروفة- كفيل باستثارة دواعي العدوانية لدى صاحبه وحمله على استعداء الناس عليه والتربص بالأمم والشعوب والتسلط عليها وتقتيلها وإبادتها إن كان حاكما بأمره تجنبا لمغبة الاضطهاد. وفي حمَاة الاقتداء والانقياد ينصاع له مرؤوسوه فتنشأ صراعات وتنشب معارك وحروب لا تُبقي ولا تذر. ذلك أن انعدام الأمن واستشعار الخوف كفيل بأن يحمل حاكما هذا شأنه على إدخال شعبه في أتون حروب لا تنتهي حتى تتجدد وتستعر خشية أن ينفلت زمام الأمر من يده. فليس أبو النتن وحليفه الرئيس الأمريكي الحالي إلا واحدا من الجبابرة والطغاة الذين يركبون رؤوسهم ويسعون في الأرض فسادا وطغيانا، وهم مع ذلك يعتلون كراسي الحكم ويتصدرون منابر الأمم المتحدة يزبدون ويرعدون ويهددون ويتوعدون على مرأى ومسمع من العالم المتحضر ! وقد حُق لعدد من العقلاء أن يشككوا في الصحة العقلية للرئيس الأمريكي ويتوجسوا خيفة من تبعات طيشه ونزقه ورعونته على استقرار بلدانهم وعلى السلم العالمي. وقد يعجب المرء فيسائل نفسه : كيف تسن الدول الكبرى القوانين التي تجبر مدمني الخمور على العلاج وتبيح إيداع المريض العقلي المستشفى إذا بدا منه ما ينبئ عن خطر محقق على نفسه وعلى الناس من حوله ولا يخطر على بالها أن تتشكك في عقول قادتها وساستها حينما يعيثون فسادا في فلسطين تخريبا وتدميرا وتحريقا وتجويعا وترحيلا وتهجيرا وتقتيلا لأطفالها ونسائها وشبيبتها وشيبتها ؟  وهل يُعقل بعد ذلك كله أن يهدد رئيس أكبر قوة عسكرية في العالم أهل غزة بتصليتهم نارا تلظى إن لم ينصاعوا لجنونه ويخلوا أرض آبائهم وأجدادهم لتصير منتجعا سياحيا له ولأمثاله من الجبابرة الطغاة ؟  تلك من أنباء الجنون السياسي وفصل من فصوله والبقية تأتي.