الخميس 6 فبراير 2025
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف: دموع الحسرة

عبد الصمد الشنتوف: دموع الحسرة عبد الصمد الشنتوف
عندما وطئت قدماه حي القبيبات أول مرة قال في نفسه: ها قد عدت مرة أخرى لحياة "الزفت"، في إشارة واضحة إلى حياة تخلو من الأفق والأمل، وتملأها الخيبة والبؤس.
 
وفي ومضة خاطفة، سطعت في ذهنه صور متعاقبة لحياة قاسية عاشها من ذي قبل. طفقت الحسرة والدهشة تطلان من عينيه. بدا كما لو كان يتألم في صمت. لا ريب أنه لم يكن جاهزا لمثل هذا السناريو المريع. سيناريو ذي عواقب غير محسوبة. لاسيما وأنه استمرأ حياة الدعة والتسكع بين الحانات في بلد الآخرين.
 
عاد حميد إلى وطنه بعد غيبة طويلة. عشر سنوات بلياليها ونهاراتها قضاها لاهيا متسكعا في أوروبا، وفي ألمانيا على وجه التجديد.
 
عاد إلى أهله خائبا وقد انتهى به الأمر إلى الأسوأ. بدا صموتا جنوحا للعزلة، ولا يكلم أحدا. ألفى حيه العتيق الذي لم يعرف غيره منذ مولده جامدا في مكانه. الحياة بئيسة، والدنيا كحالها لم تتغير، وكأن الزمن محبوس في قارورة من زجاج. صيحات الباعة تتعالى، ضجيج الصناع والحرفيين لا يتوقف، وحركة الناس لا تهدأ. حتى أن السقاية الإسمنتية المرصعة ببقايا قطع زليج موريسكي باهت لاتزال قائمة في مكانها. نفس السقاية التي ترتوي منها مي طامو مثل باقي معوزي الحي المتصدع.
 
وبعد حين، صعد حميد سلالم ضيقة تفضي إلى غرفة شبه مهجورة فوق سطح بيت قديم مطل على نهر لوكوس. خلع ملابسه بهدوء، وجلس على حاشية السرير محدقا في الفراغ برهة. بدا كما لو كان نادما على ما أهدر من فرصة لا تعوض. لكن فات وقت الندم على أي حال.
 
بعدئذ، اضطجع في فراشه البارد المغبر ثم غرق في كآبة عميقة. لبث معتكفا في غرفة مهترئة يعلوها شباك مدور صغير، نفس الغرفة المطلية بلون أصفر حائل التي تعرفه منذ صباه. ظل قابعا لأمد طويل بين جدران رطبة شاهدة على سخافات حياته في مطلع شبابه. ما لبث أن غاب في صمت قاتل، ثم توارى عن الأنظار لأسابيع عديدة.
مر أسبوع، ثم شهر، ولم يظهر له أثر. كان وجهه واجما، ومزاجه قاتما على الدوام.
 
ذاع الخبر بين أهالي الحي، أنه تم ترحيله قسرا من أراضي ألمانيا بموجب قرار من المحكمة. مي طامو  تعيش في صدمة حارقة. غشيتها حالة قلق دائم. تندب حظها ولا تفتأ تردد أن إبنها مظلوم، ويغلب على ظنها أن سهام العين و"التابعة" قد طالته.
 
السيد محجوب بقال الحي يعرف العائلة جيدا، ويعرف الكثير عن طفولة حميد وعن السنوات التي سبقت هجرته إلى القارة العجوز. كان حميد سامعا مطيعا لكل ما تنطق به أمه، حتى أنه يسهب في استرضائها وخدمتها برفق. لم يعرف أباه قط، ذلك أن أبويه انفصلا في بدء الزواج ولما يبلغ الفطام بعد. لبث وأمه يعيشان معا منذ ذلك الحين. لم يكن لكل منهما سوى الآخر. يذكره محجوب جيدا كشاب رياضي قوي البنية مفتول العضلات، يمارس هواية الأكروباط في شاطئ رأس الرمل نهارا، لكن حينما يحل المساء، يخرج إلى وسط المدينة سعيا وراء الرزق حاملا على كتفيه الواسعتين قفة فول سوداني مملح، ليطوف بها بين المقاهي ودور السينما.
 
يضيف سي محجوب في حنق: غريب أمر هؤلاء الشباب المغرر بهم بلا حد. لا يحمدون الله على نعمه وخيراته. ما أن يعبروا مضيق البوغاز نحو الضفة الأخرى حتى تطيش عقولهم، فيزيغون عن جادة الصواب، ثم يلقون بأنفسهم في أتون مشاكل هم في غنى عنها. ما أسرع ما ينفلتون من عقالهم كخيول جامحة، وبالتالي يشرعون في ارتكاب الموبقات والمصائب. وهذا ما ينسحب بالذات على حميد. عوض أن يتدبر حياته بطريقة لائقة، ويشمر عن ساعديه كي يشتغل كمواطن سوي مبرهنا عن حسن طويته، قرر أن يخالط رفقة السوء، وينخرط في إحدى عصابات الأكراد ليسلك طريق الجريمة. كلما دلف إلى حانة أو علبة ليلية إلا وأتى نكرا، بحيث أنه كان واثقا من نفسه، مزهوا بعضلاته. وغالبا ما كان ينهمك في مشاجرات عنيفة مع الغجر، ومع شباب ألماني طائش. حتى أنه إذا ما طفح سكره وتعاطى حبوبا من مخدرات صلبة، استحال إلى وحش كاسر، يشيع الذعر والفوضى بين الناس في شوارع وحانات هامبورغ.
 
كانت مي طامو مثقلة القلب بالهم والحزن على إبنها، فهو الذي رفض أن يبرح غرفته منذ أسابيع دون أن تستطيع فك شفرات هذا اللغز المحير. انفلت أسبوع بعد آخر وبقي الوضع على حاله. كيف لشاب حالم محب للحياة قادم من أوروبا توا أن يختبئ في غرفة باردة طوال هذا الوقت، لا شك أنه مسحور أو ضربته جنية نصرانية. هكذا كانت تتسائل.
 
وذات مساء، تفاقمت حالة فقدان الشهية لدى حميد، فترك الصحن على حاله مملوءا بالطعام كما قدمته له أمه. بعد لحظات قليلة، استلقى على ظهره مصوبا بصره إلى السقف، واستغرق في تفكير طويل، كما لو كان يعدد عيوبه ويراجع نفسه. وفي غمرة عزلة طويلة وكآبة فائقة، قرر بإرادته الخروج من تلك الزاوية المظلمة، فأحنى ظهره لسحب حذاءه الأسود اللامع من تحت السرير. انتعله على عجل قبل أن يضع نظارات شمسية داكنة على عينيه، وراح يدير مقبض الغرفة الصدئ. ما لبث أن هبط الدرج في أناة وحذر شديدين.
 
وفجأة من دون مقدمات، انتابته بشكل غريب رغبة عميقة في تناول أكلة التشورو وتشمم هواء البحر. صفق الباب وراءه بعصبية حتى كادت الشبابيك أن تقفز من مكانها. سرعان ما التفت عن يمينه ويساره متطلعا إلى ما حوله في ارتباك لافت، وكأنه مختلس خائف، ثم غادر البيت بذهن شارد تجاه بلاصا اسبانيا.
 
سار في اتجاه السوق الصغير بخطوات متمهلة، فيما طقطقة حذائه الجلدي تمتزج بهدير البحر، وزعيق صفارات المراكب تدوي في الهواء إيذانا بدخولها الميناء. كان الزقاق الطويل شبه مقفر من المارة إلا من كلب كسول تكسوه بقع سوداء، ينكمش على نفسه قدام محل جزارة عند مدخل البوابة المقوس. مما دفع بسي المهدي صاحب المحل الذي ضاق به ذرعا كي يهش عليه بعصاه غاضبا، وصارخا بقوة: "كفاك خمولا ونوما. هيا اغرب عن وجهي وابحث لك عن مكان آخر تستكمل فيه نومك". ليضيف قائلا: مهمة الكلاب حراسة الغنم والفيلات وليس النوم الثقيل بلا نهاية.
 
فما كان بالكلب الكسلان إلا أن فر هاربا بجلده نحو ملاذ أكثر أمنا...
 
يتبع....