
نجحت الجزائر، في فترة الستينات والسبعينات من القرن 20 في شراء شبكة واسعة من العلاقات، لاسيما مع دول عدم الانحياز والمعسكر الاشتراكي، ونزلت بكل ثقل ديبلوماسية الغاز، وأسطورة «المليون شهيد»، والمد التحرري العام، لتصنع «قوتها الضاربة» على حساب الجوار. غير أن موجة العنف والاضطراب التي اجتاحت البلاد «العشرية السوداء»، بعد إلغاء الانتخابات التشريعية في عام 1990، ألجمت هذا الطموح العسكري الشديد، مما أدى إلى احتقان داخلي سياسي حاد أدخل الديبلوماسية الجزائرية في دوامة من الجمود استمر حتى الآن. إذ شرع النظام في عض ذيله، كما أرغمت العناصر النافذة في المؤسسة العسكرية على الدخول في توافقات اصطناعية على الصيغ المحددة لسياستها الإقليمية لسد الثغرة الحاصلة بينها وبين محيطها، خاصة أن الخيارات المتاحة لها بوصف الجزائر دولة محورية مغاربيا وإقليميا، لم تعد هي نفسها. كما أن التطورات التي عرفتها المنطقة تقتضي، ليس استعادة المجد الوهمي السابق، بل مراجعة الأوراق على أساس الاحترام المتبادل والتعاون المشترك وحسن الجوار، وفي ضوء التحولات الجيو-استراتيجة والجيو-سياسية التى تعرفها العلاقات الدولية، على مستوى المصالح والتكتلات؛ وهذا ما لا يوجد له أي أثر في قاموس النظام الجزائري الذي بنى سياساته الخارجية على التنازع والتآمر واختلاق الأزمات وتشبيك الصراعات والابتزاز ومحاولة تركيع الجيران.
لم يخرج العسكر الجزائري، حتى اللحظة الراهنة، عن المحددات المركزية لسياسته الإقليمية المبنية على الصراع، وعلى «وضع العصا في العجلة»، وعلى التسلح المفرط وممارسة الضعط واستعراض القوة، مما انعكس تلقائيا على محيطها الإقليمي . ومن علامات ذلك:
أولا : في الوقت الذي يحاول المغرب تجاوز الجوار الصعب بيعديه الجيوسياسي والجيوستراتيجي، وتطبيع العلاقات الثنائية بينه وبين جيرانه «سياسة اليد الممدودة»؛ وهذا ما نجح فيه إلى حد بعيد مع إسبانيا وموريتانيا، اختار النظام الجزائري الإقامة الدائمة في التنازع الإقليمي، وعدم تجاوز حالة الـ «اللاحرب واللاسلم»، بل الإمعان في عدم حلحلة مشكلة الحدود بين الجزائر والمغرب، والإصرار على مبدأ الحدود الموروثة عن المستعمر.
ثانيا : للتمكن من عزل المغرب عن سياقه الإقليمي، حاول العسكر الجزائري ابتزاز موريتانيا في أمنها واستقرارها، إذ تثبت كل الشهادات والأدلة أن نظام الهواري بومدين سلط مقاتلي البوليساريو لمهاجمة القصر الرئاسي بنواكشوط في 8 يونيو 1976، كما أنه نقل الحرب إلى عمق الأراضي الموريتانية في العام 1977، حيث استولى السلحون المدعومون من الجيش الجزائري على عدة مواقع في الشمال الموريتاني في الحنك، كلمسربيين والشاكات، كما تم الهجوم على الزويرات وتيشيت، وهو الأمر الذي استمر حتى عام 1978، إذ هاجم المقاتلون الموالون لقصر المرادية العاصمة نواكشوط مرة ثانية، فضلا عن المناطق التالية: «وادان، شنكيطي، اطار، تيجكجا، أجريف محمد فاظل، باسكنو، النعمة، بوجرطالة، الزويرات، بئر ام اكرين، عين بتنيلي، الخ». وكان العسكر الجزائري، عبر ابتزاز موريتانيا، يهيئ لفرض الأمر الواقع وتوطين البوليساريو في منطقة وادي الذهب على نحو نهائي، لكن يقظة الملك الراحل الحسن الثاني حالت دون تنفيذ المؤامرة الجزائرية التي أرغمت موريتانيا على توقيعها، خاصة بعد بناء الجدار الأمني، مما أدى بموريتانيا إلى البقاء على الحياد في هذا النزاع. وهو ما لم تستسغه الجزائر إلى حد الآن، وتعمل بكل جهدها من أجل إلحاق موريتانيا بسياستها التآمرية على المستوى الإقليمي، تارة بالجزرة، وتارة بالعصا. وليس أدل على ذلك من التحرشات التي تقوم بها الجزائر بين الفينة والأخرى على مستوى المناطق القريبة من الحدود الموريتانية، بموازاة مع فتح «الخزائن» أمام الموريتانيين من أجل إبرام اتفاقيات لا تختلف كثيرا عن «حرث المياه»!
ثالثا : استغلت الجزائر الفوضى العارمة التي تعيشها ليبيا لتفعيل اتفاقيات التعاون الأمني مع طرابلس، إلى جانب كل من تركيا والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وإيطاليا، ليس لأنها تتقاسم مع ليبيا حدودا برية طويلة تقارب الألف كيلومتر (982 كلم)، بل أساسا من أجل استعراض القوة العسكرية بوصفها لاعبا إقليميا لا يمكن القفز عليه، فضلا عن تعزيز النفوذ في الداخل الليبي، والظهور بمظهر الدولة الحيوية التي تعمل إلى جانب القوى الدولية العظمى من أجل دعم الاستقرار السياسي في المحيط الإقليمي، واستثمار هذا الوضع الإقليمي من أجل للعودة إلى الساحة الإقليمية لتصير فاعلا إقليميا أساسيا. غير أن الجزائر تنسى أن ليبيا، الآن، دولة ضعيفة مهددة بالانقسام، في ظل سيطرة عسكرية متغيرة ومتنوعة الولاءات، وفي ظل صراع الجبابرة بين حفتر ومجلس النواب من جهة، وبين حكومة عبد الحميد الدبيبة، وفي ظل تحول ليبيا إلى ساحة للصراعات الدولية، بل إلى ساحة للتنافس الروسي الغربي.
رابعا: لم يجانب الخبير الجزائري، الهواري تيغرسي، الصواب حين أكد، في تصريح لقناة «سكاي نيوز عربية»، أن «تونس ولاية جزائرية مهمة جدا». وهذا التصريح يكشف بالملموس كيف فرط الرئيس التونسي الحالي قيس سعيد في السيادة الوطنية لبلاده بسبب عجزه عن مواجهة الصعوبات الاقتصادية التي تورطت فيها بلاده، مما يفسر أن تونس ارتمت في أحضان الجزائر بحثا عن تسهيلات لسداد المستحقات المتأخرة للغاز والمحروقات الجزائرية، علما أن تونس كانت في ظل حكم الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي أقرب سياسيا إلى المغرب منها إلى الجزائر. وقد تحولت تونس الآن، مع اشتداد الحاجة إلى الدعم المالي والاقتصادي والعسكري الجزائري، إلى مجرد ملحقة إدارية للجزائر، تأتمر بإملاءاتها وتتبنى مواقفها وتمتثل لمخططاتها في المنطقة، على حساب «الثابت التونسي» في التعامل مع دول المنطقة المغاربية. وهذا ما تم الوقوف عليه حين أرغم خادم قصر المرادية على استقبال زعيم الانفصاليين استقبال زعماء الدول بمناسبة القمة اليابانية الإفريقية «تيكاد» في غشت 2022، الأمر الذي قاد الرباط إلى إعلان عدم المشاركة في القمة واستدعاء سفير المغرب بتونس. وكان الموقف المغربي واضحا حين اعتبر بأن قراره يأتي بعد أن «ضاعفت تونس مؤخرا من المواقف والتصرفات السلبية تجاه المملكة المغربية ومصالحها العليا».
خامسا: انتفضت الحكومة المالية قبل أسبوع في وجه حكام الجزائر، إذ أصدرت الأسبوع الماضي (1 يناير 2025) بيانا شديد الللهجة، يؤكد وصول العلاقات بين البلدين إلى مستوى من التصعيد الديبلوماسي الخطير، وذلك على إثر الاتهامات التي كالتها باماكو لجارتها، واستهلتها بـ «دعم الجماعات الإرهابية، والتدخل في الشؤون الداخلية». كما دعتها إلى «توجيه جهودها نحو معالجة أزماتها وتناقضاتها الداخلية، بما في ذلك قضية القبائل والكف عن جعل مالي رافعة لتموضعها الدولي».
وكان المجلس العسكري في مالي قد أعلن قبل عام (يناير 2024) إنهاء الاتفاق الذي أشرفت عليه الجزائر «سلم ومصالحة» سنة 2015، بسبب ما أسماه الماليون «التغير في مواقف بعض الجماعات الموقعة والأعمال العدائية من جانب الجزائر».
ويرى المراقبون أن مالي ضاقت ذرعا بالنهج الأبوي الذي تمارسه الجزائر في حقها، مما قد يوهم بأنها دولة تابعة لحكم شنقريحة، والحال أن الجزائر تثبت يوما بعد يوم أنها من الداعمين الأساسيين للحركات الانفصالية في جوارها الإقليمي، بل إن دعم الانفصال بات عقيدة استراتيجية وماركة مسجلة للنظام الجزائري.
سادسا: موازلة مع الإمعان في محاولة فرض الوصاية على مالي، تمادت الجزائر في استصغار دول الساحل (مالي والنيجر وبوركينا فاسو) أفضى إلى رد قوي من المجالس العسكرية للدول الثلاث، وذلك بإنشاء تحالف دول الساحل AES ، للدفاع الجماعي والمساعدة المتبادلة، ضد أي تهديد أمني سواء أجنبي أو الجماعات الجهادية الإرهابية، حيث تم التوقيع على ميثاق «ليبتاكو-غورما» (Liptako-Gourma)، في 16 شتنبر 2023، كإطار عسكري موحد تتعهد فيه الدول الثلاث بمساعدة بعضها البعض في حالة وقوع هجوم على سيادة وسلامة أراضيها، عبر بتجميع أنظمة الدفاع والتحرك المشترك. وهو ما أعاد الجزائر إلى حجمها الطبيعي، ومحاولة استعمال ورقة التعاون الاقتصادي لاستمالة هذه الدول، وخاصة النيجر وبوركينافاسو.
سابعا: رغم تهافت الجزائر على محاولة لعب دور الوساطة لإيجاد خل للأزمة السياسية التي اندلعت في النيجر، إلا أنها لا تتمتع بأي ثقل سياسي، ولا بأي عنصر من عناصر الثقة والمصداقية. وهذا ما أكده وزير خارجية النيجر حين أعلن بوضوح أن «الجزائر لم تكن يوما ما معنية بالشأن النيجري، ولا تربطها أية اتفاقية معها، وأن المبادرة الجزائرية غير مهمة إطلاقا». وعولت الجزائر كثيرا على «مسح ديون النيجر وتقديم بعض المساعدات» كنوع من الرشوة لصنع ثقلها السياسي. غير أن مبادرتها باءت بالفشل بسبب إدراك القرار النيجري لكونها مجرد مناورة لتحييد التدخل الدولي وبسط الهيمنة على دولة تنشد الانعتاق من أي وصاية.
ثامنا: عملت الجزائر، أمام فشلها الذريع في احتواء جوارها الإقليمي، على إقفال حسابات القروض الممنوحة لحكومات مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد وغينيا بيساو والبينين بما فيها موريتانيا، وذلك عقابا لهذه الدول على انضمامها إلى المبادرة الأطلسية التي أطلقها الملك محمد السادس في نونبر 2024. حيث نصت المادة 108 من قانون المالية الجزائري، على إقفال حسابات القروض الممنوحة لهذه الدول، مع تحويل أرصدتها لخزينة الدولة، وفي مقدمة تلك الدول موريتانيا، المنتمية لمجموعة دول الساحل.
تاسعا: حاولت الجزائر، منذ انتخاب عبد الفتاح السيسي رئيسا لمصر، جر القاهرة إلى صفها على حساب المغرب، كما حاولت استغلال الأزمة الاقتصادية التي عاشتها مصر بعد الانقلاب على الرئيس «الإخواني» محمد مرسي، من أجل تأليب النظام المصري على المغرب، باستعمال ورقة «الغاز» حينا كرشوة تمهد الطريق للاعتراف بالبوليساريو، وأحيانا أخرى بقدح الشرار في نسيج العلاقات المغربية - المصرية، ولعل آخرها «تسريب» وثيقة مزورة في الأسابيع الماضية تدعي تورط المخابرات المغربية في المس باستقرار مصر، ناهيك عن تحريك النعرات بتسخير الإعلام المأجور، ثقافيا واجتماعيا ورياضيا. غير أن «سوء الفهم» سرعان ما تلاشى عقب رسالة تلقاها الملك محمد السادس في يناير 2015 من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. إذ جرى الاتفاق حينها حول أهمية «عدم السماح لأي طرف بأن يوقع بين البلدين، للنيل من العلاقات المتميزة التي تجمع بينهما».
عاشرا : من علامات انسداد العقل السياسي في الجزائر أنه لا يتعلم من أخطائه، والدليل على ذلك أنه رغم فشله في أكثر من ملف في جواره الإقليمي، وعلى نحو لافت للانتباه ومثير للشفقة، ما زال مصرا على الركوب على «النيف» واستعمال التهديد وقلب الطاولة والصراخ والتباكي وإذكاء النيران. ويكفي أن نذكر بما قام به الكابرانات حيال اعتراف فرنسا وإسبانيا بمغربية الصحراء، فضلا عن الدخول في أزمات صامتة مع عدد من الدول، وعلى رأسها سويسرا والإمارات، مما يؤكد أن هذا النظام يستحق الإقامة الجبرية في «معزل طبي» حتى يشفى زعماؤه من مركب «تعظيم الذات»، ومن وهم «السلطة التي لا تقهر».
لا يمكن تفسير ضعف الأداء الديباوماسي للجزائر في محيطها الإقليمي إلا بانكفائها على هدف محاصرة المغرب وإضعاف نفوذه الإقليمي المتواصل، بدل التركيز على إيجاد حلول لمشاكلها الداخلية؛ ومحاولة مواجهة المخاطر التي تهدد أمنها الوطني، بالاعتماد على جوار إقليمي متماسك ومتعاون وآمن، بدل بناء الحواجز الحدودية «سياجات وخنادق» وتحويلها إلى مناطق عسكرية، وإقفال الحدود وغلق المجالات الجوية وفرض التأشيرة والتدخل في الشؤون السيادية للبلدان، ودعم الانفصاليين والمجموعات المسلحة، والابتزاز والعرقلة، والسباق المحموم نحو تهديد الوحدة الترابية للجيران، واختراق الحكومات والتحكم في قراراتها.
والخلاصة أن الجزائر ابتلاء كبير تعيشه البلدان المجاورة لها، ولن ينتهي هذا البلاء إلا بزوال نظام العسكر الذي لا حد لتهوره، ولا سقف لطموحه التوسعي الأحمق!
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"