الخطاب الملكي المخلد للذكرى 49 للمسيرة الخضراء لم يكن فقط قوياً من حيث لغته، بل كان أيضاً من حيث عناصره التي حملها لكل من يهمه الأمر خارج و داخل المغرب، رسائل أعاد التشديد عليها بوضوح، و جرأة يعكس دقة المرحلة التي سيمر منها الملف خاصة مع إعادة انتخاب ترامب، مرحلة ما بعد الموقف الفرنسي و قرار مجلس الأمن 2756…تزايد حجم الدعم الدولي لمغربية الصحراء و مبادرة الحكم الذاتي، افتتاح القنصليات بالصحراء…
و غيرها من المعطيات الواقعية التي تفيد أن الملف تم حسمه، هي معطيات جعلت من ملك البلاد يعود إلى التوجه بوضوح لكل من يهمه خاصة لمن يريد أن يجد له منفذاً بالمحيط الأطلسي، المقصود هنا و بلا شك هي الدولة الجزائرية التي تحول لها هذا الحلم لهوس جعلها تفقد ملايير الدولات على تنظيم مليشياتي لم يحقق لها غير استنزاف خيراتها و إنشاء مخيمات على الأراضي الجزائرية تمارس فيها كل أنواع الانتهاكات الحقوقية آخرها ما وصفه الخطاب الملكي بتحويل ساكنة المخيمات إلى رهائن لديها تقايض بهم المنتظم الدولي.
بالعودة للخطاب و للفقرات التي توجه فيها الملك "للجارة" باعتبارها هي من تستغل "قضية الصحراء للحصول على منفذ بالمحيط الأطلسي"، فقد كان واضحاً بأن خيرها بين أن تنتمي للمستقبل، لعالم التكامل الاقتصادي، عالم الواقعية، في "إطار الشراكة و التعاون و تحقيق التقدم المشترك لكل شعوب المنطقة" و بين أن تبقى مُصرة على الإنتماء لعالم " آخر منفصل عن الحقيقة، مازال يعيش على أوهام الماضي، و يتشبث بطروحات تجاوزها الزمن" سقطت هذه الطروحات مع سقوط جدار برلين، أصبحت كلها من الماضي هي و أنظمتها و الأيدولوجية التي كانت تروج لها سابقاً تحت شعار كلاسيكي ل "تقرير المصير"، لقد تأكد بعد توالي المتغيرات التي شهدها العالم على كونها طروحات غير ذات معنى في ظل عالم يبحث عن الإندماج و التكامل، هنا سيكون الملك قد أعاد تقديم يده الممدودة في إطار مشروع واضح متعلق بالمبادرة الأطلسية التي دشنها، و التحقت بها جل الدول المعنية بهذا المشروع الطموح المخصص للدول المتواجدة على الساحل-الصحراء،خاصة و أن الملك قد أكد على أنه لا يمانع و" لا يرفض ذلك" أي لا يرفض أن تكون للجزائر منفذاً للمحيط الأطلسي لكن ليس بالانفصال و لا بدعم المليشيات التي تعيش موتاً سريرياً، و لا بالاستمرار في سياسة "الحصى في حذاء المغرب" التي دشنها بومدين و تحولت لعقيدة لدى العسكر الجزائري.
الملك في هذه النقطة كما كان قوياً و هو يصف هذا العالم الآخر،الماضوي، المُتجاوز عقيدةً و سيرورة تاريخية، فهو أعاد تقديم يده الممدودة في إطار بناء تكامل اقتصادي واضح ضمن المشروع و المبادرة الأطلسي الذي قد تسعف الجزائر في تحقيق "حلم" إيجاد منفذ لها للمحيط الأطلسي لكن في ظل السيادة المغربية، و مشروع اقتصادي واضح موجه للمنطقة تكون الجزائر جزءاً منه إن هي تخلت عن عالمها القديم!!
القوي في هذا الخطاب هو أن الملك رغم كل ما يأتي المغرب من "شر" سياسي و دبلوماسي من الجارة، إلا أنه لم يتخل عن الحلم، حلم بناء مشروع متكامل اقتصادياً في المنطقة تتكامل فيه الشعوب و يكون في خدمة مصالحها يضمن حقها في التنمية، هذا الحلم يتقدم به الملك من جديد و بشكل واضح عندما أشار أنه لا يعارض مبدئياً الطموح الجزائري ليكون لها منفذ بالمحيط الأطلسي، لكن ليتحقق هذا الحلم لابد من أن يمر من قناة طبيعية، تحترم سيادة الدولة المغربية و تنتهي بتفكيك المخيمات و تحرير ساكنتها الذين تحولوا لرهائن لديها و لدى مليشيات البوليساريو.
العالم مرة أخرى سيكون شاهداً على المغرب وعلى ملكه و هو يتقدم خطوة إلى المستقبل، خطوة في اتجاه ضمان الاستقرار الاقتصادي و السياسي لدول المنطقة، و يعيد تقديم يده الممدودة بشجاعة الكبار، دون عُقد، و بروح واضحة تهدف إلى انخراط الجزائر إلى جانب دول الساحل في مشروع المبادرة الأطلسية ، و هي مبادرة انطلقت و لن يستمر قطارها في انتظار أن تتحرر الجزائر من تاريخها الماضوي و عقدها.
لقد أضاعت الجزائر فرصة أن تعيد بناء الإتحاد المغاربي على أسس واقعية، بدل الشطحات التي يتم القيام بها حالياً.
لقد أضاعت الجزائر فرصة أن تكون جزءاً من مشروع أنبوب الغاز نيجيريا-المغرب، و انطلق المغرب بالمقابل في تنفيذ المشروع مع شركاءه.
لقد أضاعت الجزائر فرصة أن تكون جزءاً من تكتل أوروبي يخدم شعوب المنطقة و إختارت معاكسة المنطقة كلها، و انطلق في بناء إقامة شراكاته الإقتصادية مع الدول الأوروبية.
لقد أضاعت الجزائر فرصة اليد الممدودة، و انطلق المغرب في مدها بكل الدول التي اختارت دعم سيادته الكاملة على ترابه.
لقد أضاعت الجزائر كل الفرصة التي قدمها لها عاهل البلاد، و إختارت أن تظل سجينة الماضي و عالمه الذي تم تجاوزه دولياً.
عاهل البلاد يعيد تقديم فرصة للجزائر لتكون جزءاً من مشروع المبادرة الأطلسية، المغرب ماضٍ في تنفيذه و على الجزائر أن تختار بين أن تكون جزءاً منه و من مستقبل المبادرة الأطلسية، أو تختار البقاء في عالمها الذي عزلها عن المستقبل، و في عزلتها هاته قد تتجه نحو مغامرة غير محسوبة العواقب تجر للمنطقة للتهديد الأمني!
الملك يقدم برؤيته يداً ممدودة لصناعة التنمية و التقدم بالمنطقة، لكل دولها و شعوبها، بدون مركب نقص و بدون أي خطاب متعالٍ…
و للجزائر و نظامها الخيار بين أن تكون جزءاً من هذا المستقبل، أو تستمر في سياستها التي تُعمق عزلتها الدولية و الإقليمية، و تدفعها لإهدار ميزانية الشعب الجزائري في التسلح، و إذا كان للجزائر هذا الخيار فعلى المنتظم الدولي أن يكون شاهداً على هذا الخيار و يتخذ ما يلزم من قرارات لمنع جر المنطقة نحو الهاوية!!!