هناك مخططات ظاهرة وباطنة، داخلية وخارجية من اليمين الإسلامي المتشدد، واليسار الراديكالي المتطرف.. فجل هؤلاء اليوم يعكسون بكل وضوح فكر صاحب كتاب "أبو بكر ناجي"، الذي يدعو في كتابه: "إدارة التوحش"، إلى زعزعة استقرار الدول الإسلامية وإضعاف مؤسساتها كوسيلة للسيطرة عليها؛ بحيث يستخدمون لتحقيق ذلك تقنية الغزوات الفيسبوكية والالكترونية، لهدف واحد وهو إسقاط هيبة الدولة وتمزيقها وتشتيتها، ثم الانقضاض عليها بكل سهولة.
في هذا السياق قال لي وهو يحاورني اليوم أحد الإخوة على الخاص- وربما من أصحاب نظرية التوحش- أنت تعبد الأصنام من دون الله تعالى! فقلت له أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كيف نعبد الأصنام وأنا أصلي وأصوم ونحح ونقرأ القرآن آناء الليل وأطراف النهار. فقاطعني وقال لي معذرة، أنا أقصد بأنك تحب وطنك المغرب وشغوف بذكره والتحدث عن مناقبه والإفتخار بتاريخه، وهذا الحب لا يجوز شرعا لأن الأوطان هي عبارة عن حفنة تراب عفن ينبغي عليك عدم الإهتمام به والتعلق بترابه..!! .
فقلت له للأسف، مفهومك للوطن مفهوم غير صحيح ومغرر بك من قبل العدميين والحمقى الذين يعتبرون الوطن صنم يعبد من دون الله تعالى. يا جماعة الخير الوطن هو جزء أساسي في دين الإسلام وهو الحضن الكبير الذي يحوي كل أفراد الشعب والمجتمع، وهو المكان الذي مهما ابتعد الإنسان عنه يبقى دائمًا معلقًا به، ويتمنى العودة إليه عندما يُسافر ويبقى الحنين والشوق إليه.
فحب الوطن أمر فطري، والإسلام دين الفطرة، والناس مجبولون على حب أوطانهم، ومرتع صباهم، وبلد آبائهم وأجدادهم، بل حتى الإبل والحيوانات تحن إلى أوطانها، والطيور إلى أوكارها..كيف تعتبرون الوطن حفنة تراب عفن؟! أفلا تعقلون !
إن الوطن في المفهوم الإسلامي نعمة من نعم الله تعالى، لذا يجب علينا جميعا المحافظة على هذه النعمة، نعمة اﻷمن ونعمة اﻹستقرار ونعمة السلام..
فالمواطن الصالح هو الذي يحرص على مصلحة وطنه ومجتمعه قبل مصلحة بيته وأسرته، ﻷن المصلحة العامة تندرج تحتها المصالح الخاصة، وعندما يزدهر الوطن يزدهر معه اﻷفراد والجماعات..قال الغزالي: " والبشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحَشًا، وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص ".
هذا الحب للوطن عبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في بداية بعثته وحين هجرته، ففي بداية نزول الوحي عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بغار حراء، ذهبَ مع زوجتِه خديجة - رضي الله عنها - إلى ورقة بن نوفل، وقصَّ عليه ما حدث معه من أمر نزول جبريل عليه السلام، وورقة يفسر له ذلك حتى قال: ( ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أَو مُخْرِجِيّ هم؟!، قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا ) رواه البخاري. قال السفيري قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( أو مخرجي هم؟ ): " استفهام إنكاري على وجه التفجع والتألم، كأنه استبعد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يخرجوه من حرم الله وجوار بيته، وبلدة أبيه إسماعيل من غير سبب، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن منه فيما مضى ولا فيما سيأتي سبب يقتضي إخراجاً، بل كانت منه المحاسن الظاهرات والكرامات المقتضية لإكرامه وإنزاله بأعلى الدرجات " . وفي ليلةِ هجرتِه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إلى المدينة، وعلى مشارف مكّة وقف يودعُ أرضها وبيوتها، يستعيد المواقف والذكريات ـ ولو خالط هذه الذكريات الألم ـ مخاطبا لها بكلمات تكشف عن حبٍّ عميق، وتعلُّق كبير بديار الأهل والأصحاب، وموطن الصِبا وبلوغ الشباب، وعلى أرضها بيت الله الحرام، قائلا: ( والله إني أعلم أنك خير أرض الله وأحبها إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجتُ ) وفي رواية أخرى: ( ما أطيبَك من بلدٍ! وما أحبَّك إليَّ!، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنْتُ غيرك ) رواه الترمذي. وفي ذلك دلالة واضحة على حب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشديد لبلده ووطنه مكة، كما تدلُ علَى شدةِ حزنِه لمفارقته له، إِلا أَنه اضطُرَ لذلك.
ولهذا حب الوطن من اﻹيمان ومن اﻹسلام أيضا، ومن خان وطنه وسعى فيه بالفساد واﻹفساد، أو تحالف مع اﻷشرار والخونة والبغاة واﻹرهابيين ضد بلده ووطنه لزعزعة أمنه وزرع الفتنة فيه، فهو خائن لله ولرسوله ولولي أمره، ومصيره يوم القيامة جهنم خالدين فيها أبدا، يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: " إن الذين فتنوا المومنين والمومنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ".
الصادق العثماني، أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية