رزئت الساحة الحقوقية والقانونية في بلادنا مؤخرا بوفاة الدكتور المحامي عبد اللطيف الحاتمي، المشهور بمواقفه النبيلة ودفاعه عن معتقلي الرأي وقضايا حقوق الإنسان.
لن أتكلم عن الرجل، فكثير ممن عاشروه أفاضوا في الحديث عنه بما هو أهل له، لكنني سأقف عند محطة عشتها مع الرجل وظلت راسخة في ذهني وعصية على النسيان بعدما نسينا الكثير من الأشياء، بالرغم من كون وقائعها تعود لأكثر من 25 سنة وما يزيد...ساعتها كنت لازلت طالبا أدرس الحقوق في سلك الماستر برحاب كلية الحقوق عين الشق - جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء. إذ صادف وجودي بالكلية ذات يوم، تنظيم محاضرة للمرحوم بأحد مدرجاتها، في زمن كانت فيه كليات المغرب، ماتزال منارات علم ومؤسسات تكوين وتنشئة بكل ما تحمله الكلمة من حمولة وتنطوي عليه من معاني سامية...
أذكر ان المدرج كان مملوئا عن آخره وغاصا بجمهور الطلبة المتعطش للمتابعة وللاستماع...لا أتذكر عنوان الندوة بالضبط، ولكن أذكر أن المداخلة كانت ثرية غنية، كعادة سي عبد اللطيف الذي ما إن يشرع في مداخلته، حتى يرمي بورقة التحضير جانبا، ليطلق العنان لآراءه كي تحلق في سماء الفكر بدون قيد ولا شرط. فلا يترك شيئا يتعلق بموضوع المحاضرة إلا وجاد به على المستمعين، بتشويقه المذهل ولغة المحامي المتمرس و منهجية الباحث المتمكن..
في هذه المحاضرة، تطرق سي عبد اللطيف، وهو في معرض وقوفه على المثل القائل :" المحامي يولد محاميا والقاضي تصنعه الأيام"، لقضية حدثت في المحاكم المغربية وسرد علينا الوقائع التي سأحكيها في هذه الورقة.
لا يمكنني الادعاء طبعا، أنني مازلت أذكر كل حيثيات الواقعة، وبالتفاصيل المقيدة في سجل القضية، وكما رواها سي عبد اللطيف بعد كل هذه السنين. وحسبي هنا أن أذكر ببعض ما جاء فيها وجادت علي به الذاكرة.
فقد روى المرحوم، أن صداما عاديا حدث بين شخصين بأحد القرى، سرعان ما تحول إلى حلبة للسب وتبادل الشتائم... ولأن فضاء الاشتباك كان سوقا أسبوعيا، بكل ما تحمله هذه الأسواق من صخب وفوران وارتفاع ضغط، فإن واحدا من المتشابكين، قال لخصمه: " والله حتى نجيب ليك اللي غادي يقادك ويدخلك سوق راسك"...هنا رد عليه الآخر، وقد استبدت به الجلالة حتى أفقدته صوابه ولم يعد يتحكم فيما يقول : "والله وخ تجيب اللي ساكن في الرباط براسو.. كذا..." ، العبارة واضحة و املؤوا النقط الفارغة بما شئتم من كلام لا يليق حقيقة بقدر المعني بالكلام...
هنا كانت الفرصة سانحة، أمام الطرف الأول لكي يهوي على غريمه بالضربة القاضية، لا سيما أنه تفوه بما تفوه به في سوق مزدحم، والناس حاضرة تتابع النزال، وهناك أكثر من شاهد مستعد للادلاء بالشهادة... هكذا، وفي رمشة عين، انقض عليه " اشنق عليه" محكما قبضته عليه " قبضة العمى في الظلمة"، متهما إياه بأنه " سب جلالة الملك علانية"...
طبعا الواقعة ثابتة والشهود جاهزون..
ودون الدخول في تفاصيل الإحالة، وجد المتهم نفسه أمام قاضي المحكمة الابتدائية، الذي لن يكلف نفسه عناء البحث في ملف جاهز ، والشهود حاضرون ومستعدون للإدلاء بالشهادة، وبالتالي إحالة القضية على الغرفة الجنائية بمحكمة الاستئناف صاحبة الاختصاص، للبث وإصدار الحكم..
كل هذا، يبدو من الناحية القانونية والإجرائية مسألة عادية ومطابقة للقانون وللمساطر، لكن القاضي الشاب.. الحديث عهد بكرسي القضاء... في هذه المحكمة الابتدائية النائية والمغمورة، كان له رأي خاص..- هكذا كان يعلق الاستاذ الحاتمي ..
قاض مقتنع بأن العدالة توجد في ضمير القاضي وليس في نص القانون...لذلك لم يركن إلى أسلوب الكسالى، وآثر تشغيل عقله وتحريك ضميره الإنساني، لتحقيق العدالة وإنقاذ شخص من جريمة خطيرة ارتكبها في لحظة غضب ودون أن يكون قصده حاضرا عند ارتكابها ...فأصدر حكما خطيرا - هكذا يقول المرحوم الحاتمي - صفق له الاستئناف وأيده المجلس الاعلى...حكم مرجعي، حقق العدالة وأنقذ المواطن و حفظ مكانة جلالة الملك كما جنب القضاء الكثير من الإحراج...
فقد دبج حكمه بحيثيات منها - حسب الذي مازلت أذكره وفي الذكرى كفاية - : " حيث إن مكانة جلالة الملك محفوظة في قلوب المغاربة...وحيث إن حبهم له راسخ ولا يقبل المزايدة أو النقاش ...وحيث إن الفلاح المغربي كان دائما ولا يزال المدافع الأول عن جلالة الملك...وحيث إن القضاء المغربي هو الحارس الاول لمكانة جلالة الملك والحريص على ضمان الاحترام الواجب له...فإننا لا نتصور أن تصدر الإساءة لجلالته إلا من فاقد عقل ومخبول.. وإننا نرفض أن يدون في سجل القضاء المغربي أن جلالة الملك قد أهين في يوم من الأيام...وممن؟! من مختل أو معتوه...فإننا نقضي ببراءة المتهم من المنسوب إليه"...
لا يمكن بالطبع، مقارنة هذه الكلمات بالطريقة المجلجلة التي روى بها سي عبد الطيف هذه الوقائع، والتي جعلت المدرج الكبير في كلية الحقوق، يهتز عن آخره، طربا بهذا النبوغ القضائي لشاب في بداية مساره..نبوغ جعل المرحوم، يختم مداخلته بقناعة أخرى يختلف فيها مع مضمون المثل الذي افتتحت به هذا المقال، وهو أن القاضي هو الذي يولد قاضيا والمحامي هو الذي تصنعه الأيام.
الحكم بين الناس بالعدل، هبة ربانية وملكة يجود بها سبحانه وتعالى على من يشاء من عباده. ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ...صدق الله العظيم و رحم الله سي عبد اللطيف الحاتمي.
رشيد لبكر/ أستاذ القانون العام بكلية الحقوق بالجديدة