تشهد العلاقات الجزائرية الروسية حالة من البرود لم يشهد لها مثيل في تاريخ علاقة البلدين الممتدة الى زمن الحرب الباردة. حين اصطفت الجزائر إلى جانب المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي رغم دورها الفاعل في مجموعة دول عدم الانحياز في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. وهي المجموعة التي كانت تعمل على تأسيس خط ثالث ينأى بنفسه عن الصراع الذي كان مخيما على العلاقات بين الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي. علما أن هذه المجموعة كانت تهم بالخصوص دول عالم الجنوب التي كانت محازبة لحركات التحرر المناضلة من اجل استقلال شعوبها من قبضة الاستعمار الغربي وهو ما كان يضعها ضمنيا في خانة الحلفاء الموضوعين لمنظومة الدول الاشتراكية.
لكن يبدو ان هذه العلاقة التاريخية بين الجزائر وروسيا بدأت تشهد بعض التوترات رغم تأكيد وسائل إعلام البلدين على متانة هذه العلاقة.
من أجل الوقوف عند أسباب هذا التوتر الغير المعلن رغم أن تمظهراتها بينة لكل مهتم بالسياسة الدولية. لا بد من استحضار بعض الأحداث السلبية التي تراكمت في علاقة البلدين في السنين الأخيرة نتيجة تصادم المصالح الجيوسياسية في أكثر من مكان.
أولا، ليبيا:
لا أحد من المهتمين بالعلاقات الدولية يمكن ان ينكر الخلاف الحاصل بين البلدين في كيفية تدبير الازمة الليبية علما ان هذه الاخيرة كانت ولعقود مجالا تقليديا للنفوذ الروسي من زمن الاتحاد السوفييتي. وكانت تربطها به علاقات متميزة. لكن وبعد التدخل الأطلسي في الشأن الليبي الذي عمل على إسقاط نظام الراحل القذافي. ودخول الاخيرة في حالة من عدم الاستقرار أدت إلى الانقسام الذي نشهده حاليا بين شطر شرقي /بنغازي بقيادة حفتر المدعوم من طرف روسيا ومصر والإمارات .و شطر غربي /طرابلس بقيادة دبيبة المدعوم من طرف الغرب وتركيا والجزائر التي التقت موضوعيا بهذا الموقف مع المصالح الغربية والتركية، وذلك في صدام مع المصالح الروسية التي جعلت من الشرق الليبي قاعدة لخدمة مصالحها الاستراتيجية في دول الساحل والشرق الأفريقي .
بل أن هذا التصادم بلغ ذروته مع محاولة حفتر في سنتي 2019 / 2020 حسم السلطة في الشطر الغربي عبر هجوم عسكري واسع تصدت له في حينه مليشيات طرابلس مدعومة من تركيا وبتأييد من الجزائر التي كانت على وشك التدخل عسكريا لصالح دبيبة. هذا اضافة الى التهديدات التي وجهتها مؤخرا، لقوات حفتر المدعومة من قوات فاغنر حين تحركت هذه القوات إلى الجنوب الغربي لليبيا قرب حدود الجزائر التي رأت في هذه الوجود العسكري تهديدا لعمقها الأمني.
ثانيا: مالي وباقي دول الساحل
لا أحد من المهتمين بالسياسة الدولية ينكر التواجد العسكري لقوات فاغنر والفيلق الافريقي التابع لوزارة الدفاع الروسية في هذه البلدان. وهو التواجد الذي تؤطره اتفاقيات أمنية بين دول ذات سيادة، كما كان الشأن سابقا مع القوات الفرنسية والأمريكية قبل ان يتم إجلاءها بطلب من سلطات هذه البلدان. كما أن هذه الاتفاقيات الأمنية الجديدة شملت بلدان أخرى كتركيا وغيرها. بل ان هذه الاتفاقيات توسعت لتشمل شراكات تجارية واقتصادية. لكن في مقابل هذا التواجد لدول بعيدة عن الجوار الإقليمي للجزائر نجد هذه الاخيرة التي تربطها بدول الساحل الإفريقي حدودا بآلاف الكيلومترات. ولها علاقات تاريخية مع هذه الدول بحكم النسيج الاجتماعي المشترك الذي تمثله قبائل الطوارق المتواجدة على طول الحدود المشتركة لهذه الدول، فاقدة لأي دور مؤثر يفيد مصالحها الاستراتيجية. وذلك بعد أن دخلت في تناقضات مع حليفتها روسيا أما لحسابات ضيقة تروم الى استمالة حركة ازواد التي تربطها كذلك بالمغرب علاقات متميزة، وبالتالي عدم ترك المجال فارغا للمغرب في تمتين علاقاته بهذه الحركة التي تطالب بالانفصال في منطقة الساحل الإفريقي، وهو ما يمكن ان يطال جزءا من التراب الجزائري. علما كذلك أن هذا الموقف الداعم للمطالب الانفصالية للطوارق في مالي يجب ان ينسحب كذلك على طوارق الجنوب الجزائري حتى لا تكون الجزائر في موقع الدولة التي تكيل بمكيالين. علما كذلك ان هذا الموقف جعلها في موقع التصادم مع روسيا ومع كونفدرالية دول الساحل، خاصة بعد الكمين الذي نصبه مقاتلو هذه الحركة في أواخر شهر يوليوز للقوات المالية والروسية بمقربة من الحدود الجزائرية وذلك تحت أنظار المخابرات العسكرية الجزائرية والفرنسية.
بل ان هذا الوضع زاد تعقيدا بعد العملية المشتركة الاخيرة للقوات المالية وفاغنى ضد عناصر من هذه الحركة على بعد أمتار من الحدود الجزائرية وهو ما دفع ممثل الجزائر في الأمم المتحدة السيد عامر بن جامع إلى الاحتجاج على هذه العملية وطالب بضرورة محاسبة هذه المليشيات وذلك في اشارة الى فاغنر الروسية.
إن هذه المواقف الغير المفهومة للجزائر والتوتر الذي تشهده علاقاتها مع دول جوارها الإقليمي سواء ليبيا، أو دول الساحل التي كانت تربطها بهم علاقات جيدة في مرحلة التواجد الفرنسي. هذا دون ذكر المغرب الذي سبق أن قطعت كل علاقاتها به لأسباب لا سبيل لذكرها.
كل هذا يدفع اي متابع موضوعي للشأن الجزائري ان يطرح سؤالا عريضا حول ماهية السياسة الخارجية التي تنهجها الدولة الجزائرية في تنمية علاقاتها الدولية وبناء تحالفاتها.
علما أن ما تسوقه من مبررات تعد غير مقنعة سواء ما تعلق منها بالدفاع عن حق الأزواد في الاستقلال او الحكم الذاتي، او ما تعلق منها بالدفاع عن أمنها القومي على حدودها الشرقية والجنوبية. ولن أتحدث عن الحدود الغربية التي تشهد توترا مزمنا بحكم علاقاتها المتوترة مع جارتها المغرب على خلفية دعمها المستميت للحركة الانفصالية في جهة الصحراء المغربية. أو حتى ما تعلق منها" بالدفاع عن الديمقراطية"، التي تشكل الغائب الأكبر في الممارسة السياسية الجزائرية، وذلك في بلدان دول الساحل الإفريقي التي شهدت انقلابات عسكرية فرضتها أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية متردية لم تكن خافية عن الدولة الجزائرية.
ان هذه التساؤلات تعد مشروعة لان الموضوعي في الامر هو ان تكون الجزائر على وفاق مع روسيا التي شكلت تاريخيا حليفا تقليديا لها. وكان من الممكن ان تثبت أكثر تواجدها في محيطها الإقليمي وتنمي مصالحها الجيو اقتصادية والسياسية من خلال تطوير علاقاتها الاستراتيجية بالدولة الروسية. هذا بدل الدخول معها في تناقضات تغذيها نزعات تنم عن تضخم الأنا لدى حكام الدولة الجزائرية، التي كان من نتائجها، ترك مجالها الإقليمي فارغا تملؤه جزئيا الدولة التركية التي عرفت كيف تستفيد من التناقضات الحاصلة في العلاقات الدولية نتيجة الصراع الدولي الحالي بين القوى العالمية وذلك خدمة لمصالحها الاستراتيجية.
لكن بالرجوع الى هذه الصدامات الغير المعلنة الحاصلة بين روسيا والجزائر في أكثر من ساحة اقليمية. لابد من استحضار بعض عناصر التوتر الأخرى التي سبقت أو ورافقت هذه التوترات التي لا بد وأن نذكر بعضها ولو بإيجاز كونها كانت موضوع مقالات سابقة.
ونخص بالذكر لا الحصر رفض قبول طلب انضمام الجزائر لمجموعة البريكس في صيف 2023 وذلك رغم الرهان الكبير الذي سبق أن وضعته الدولة الجزائرية في هذا الشأن. واستبقت طلبها هذا بطلب الانضمام لبنك بريكس الذي تم قبوله مؤخرا. في مقابل قبول عضوية دول أخرى تعتبرها أقل شأن منها. بل ومن ضمنها دول تشهد علاقاتها بها توترات معلنة كالإمارات التي بلغت علاقاتهما حد القطيعة مؤخرا. أو غير معلنة كمصر التي تتواجد ودولة الإمارات على الطرف النقيض للجزائر فيما يخص الأزمة الليبية. والتي ذهب الرئيس عبد المجيد تبون مؤخرا الى حد المزايدة على الرئيس المصري السيسي حين طلب منه فتح الحدود للجيش الجزائري! للدخول الى غزة لمحاربة الكيان الاسرائيلي.
كما أن توجه الجزائر مؤخرا نحو توطيد علاقاتها الاقتصادية والطاقية والامنية بالغرب على حساب حلفائها التقليديين، وأخص بالذكر روسيا، توجت بالدعوة التي تلفاها الرئيس الجزائري لحضور قمة G7 في روما ولقائه الرئيس بايدن. ومن بعدها زيارة قائد قوات أفريكوم الأمريكية للجزائر العاصمة في شهر يونيو 2024 التي أكد من خلالها الطرفان على ضرورة تطوير علاقاتهما العسكرية ضمن إطار الشراكة الأمنية والدفاعية الموقعة بين البلدين.
إن هذه التناقضات التي تبصم السياسة الخارجية للدولة الجزائرية بين توجه ينحو للحفاظ على علاقات متميزة واستراتيجية مع الحليف التقليدي روسيا. وتوجه ينحو في اتجاه الغرب ويشتغل بسياسة رد الفعل سواء تجاه موسكو معللا ذلك بالدفاع عن المصالح الجزائرية التي يهددها التواجد الروسي في جوارها الإقليمي حسب ما تدعيه. علما ان هذا الجوار كان إلى عهد قريب تتقاسمه قوى غربية اطلسية ولم يثر يوما حفيظة هذا التيار داخل الدولة الجزائرية. أو اتجاه جارها الغربي (المغرب)، والذي يعمل هذا التوجه على استغلال ما تشكله قضية الصحراء المغربية من اهمية في العقيدة الأمنية الجزائرية من أجل التقرب أكثر للغرب بذريعة عدم ترك المجال فارغا للمغرب الذي تربطه علاقات تقليدية بالغرب رغم ما يظهره هذا الاخير من انفتاح متحفظ على روسيا والصين. بل وجعل من الصحراء نقطة فاصلة في تطوير شراكاته مع حلفائه الغربيين.
لكن في كل الحالات فأن ما تتسم به السياسة الخارجية للجزائر من تخبط استراتيجي هو شبيه إلى حد ما بالتخبط الذي تعرفه السياسة الخارجية المغربية. والاثنان يفتقدان إلى رؤية استراتيجية لتدبير علاقاتهما البينية والدولية بالشكل الذي يجعل منهما قطبا وازنا في المنطقة والإقليم، ويؤمن لهما في المقابل موقعا متميزا على الساحة الدولية. وذلك فيما يمكن أن يسفر عنه الصراع الاستراتيجي الحالي الذي يؤسس لإقامة نظام عالمي جديد متعدد الاقطاب.