الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد الخالق حسين: إمارة المؤمنين في زمن اللايقينيات

عبد الخالق حسين: إمارة المؤمنين في زمن اللايقينيات عبد الخالق حسين
يقول ادغار موران: (يجب تعلم الإبحار في محيط اللايقينيات؛ عبر ارخبيلات من اليقين)
 
هذه القولة من كتابه "تربية المستقبل" حيث بسط نظريته حول المعارف السبع الضرورية لتربية مستقبلية تناسب التغيرات الكبرى التي تواجه الإنسانية..
 
بيد أنه يبدو الحديث عن امارة المؤمنين في سياق الحديث عن التربية؛ نوع من إقحام ماهو "بيداغوجي" في ماهو سياسي..
 
لكن دعوني أمهد بهذه الدعوى والتي نعتبرها في المملكة المغربية الشريفة في مقام الحقيقة "النظرية والعملية والشعورية" وهي: "إن إمارة المؤمنين؛ رؤية تندمج فيها الممارسة السياسية الحكيمة المؤطرة برؤية إيمانية أخلاقية إنسانية"..
 
وتسمح لي هذه الحقيقة لأبرز التمايزات الكبرى لفلسفة إمارة المؤمنين؛ أولا: في مستواها النظري التنظيري المجرد..
وثانيا: في مستواها العملي التطبيقي المسدد..
فأما على المستوى النظري، فينبغي التذكير على أن إمارة المؤمنين تمتح من مركز تابث أصيل ومتأصل عبر قرون، وهو جوهر غير متحول يسمى (الإيمان)؛ غير أنه إيمان معرف بحدود ثابتة ينكشف الخلل بمجرد ملامسته؛ وهو الإيمان المتأسس على توحيد الله..
 
وإذا كانت التجربة الدينية في الحضارة الغالبة اليوم قد تجرأت على التوحيد بإقحامه في متاهات الفلسفة مما شوش على صفاء الواحد والوحدانية بشتى مقولات العجز وعدم الكمال؛ بل وحتى بمقولة الموت مع الفيلسوف نيتشه (فلسفة موت الإله والإنسان الفائق)..
 
فإن التوحيد الاسلامي الذي هو البراديغم التاوي خلف رؤية إمارة المؤمنين قد بقي على صفائه وبراءته، إنه توحيد الإله الواحد الأحد الصمد؛ وكلمة (صمد) تعني احتياج الجميع إليه وعدم احتياجه لغيره.. وفي هذا يبدو التنظير اللاهوتي الفلسفي نفسه؛ فقيرا للإله؛ ولوحدانيته الجامعة للشتات المنبثق عن كثرة الأسئلة الفلسفية اللامحدودة؛ التي قد أسقطت العقل الغربي في التعدد غير المحدود؛ أو ما يطلق عليه في المعتقد الديني (الشرك) أي الاعتقاد في كثرة الشركاء.. ومعلوم أنه في الشرك دائما تختفي المشاكسة والصراع..
 
أما على المستوى العملي؛ فإن إمارة المؤمنين وهي تتغيا تدبير مجال السياسة والأهواء وتضارب المصالح؛ تضع نصب عينيها المفاهيم الإيمانية الكبرى الثلاثة: الرحمة (حالة الاختلاف) والتعارف (حالة التفاعل) والإحسان (حالة السلام)..
 
ولأن العالم حتما وبسرعة قصوى متوجه إلى مرحلة اللايقينيات؛ وهي تجليات تظهر في خلاصات الكثير من القطاعات العلمية حتى القطعية منها كالرياضيات وتبدو جلية في (تعقد) الممارسات والتفاعلات الإنسانية أمام أعين الرصد والتقييم..
 
فإن انعكاسات هذا (اللايقين) بدأ من الآن يكشف "عجز" الكثير من النظريات الفلسفية والسياسية؛ عن تعريف ما كان "معرفا بالفطرة والحس الإنساني المشترك"؛ مثل: السلام والتعاون والوطن والحرية والهجرة..
 
إن هذا الوضع سيزيد من التقاطبات والصراعات واللااجماع حول إعادة (كتابة المعجم الانساني) في المستقبل؛ ومعلوم أن شهوة القوة والسطوة تفسد على العقل عقلانيته وتفقد المنطق تماسكه..
ولهذا سوف يدخل "التحريف" مجال المعجم؛ ويدخل التلبيس عالم (التسمية).. وستتوج السيولة المعرفية على أنها "رأس الحكمة"!!
 
وهنا يبرز الدور المستقبلي والمحوري والحاسم "لامارة المؤمنين" كمشروع متأسس على (الثابت)..
ونحن نعتبر في المغرب إمارة المؤمنين من التوابث في إشارة لهذا الاعتبار المعرفي والمنهجي..
 
سيكون العالم في حاجة لفلسفة تملك عنصر الثبات والاستمرارية.. لكن ليس ثباتا "وهميا واهيا" يمكن زعزعة أركانه عند أول "شك ديكارتي" أو أول "امتحان كوني عملي" كالذي وقع مع جائحة كورونا!!
بل إن جوهر الثبات في فلسفة إمارة المؤمنين هو القدرة على الصمود الجدلي والنظري وكذلك الواقعية المتجذرة في التجربة الإنسانية بعيدا عن كل التفاؤل الساذج..
 
إنها واقعية مبرهن عليها بالكثير من التجارب والتحديات العملية الكبرى؛ بل وفي خضم تحولات استراتيجية في التاريخ الإنساني العام..
 
ومن أنصع الأمثلة لتألق وواقعية وتفرد إمارة المؤمنين على المستوى المفاهيمي وكذا على المستوى العملي التدبيري "الموقف من اليهود".. وهو مثال جلي ومتين ومعبر..
 
فلا يخفى على كل مؤرخ للافكار كون التجربة التاريخية تقف شاهدة على القصور الفاضح في التعاطي معه من طرف مختلف الفلسفات والرؤى والأطروحات مهما ادعت التماسك المنطقي.. فقد اخفقت فيه كل الرؤى الغربية فلسفيا وسياسيا، مما أسفر عن تاريخ من الميز والاضطهاد لليهود عبر تاريخ الحضارة الغربية..
 
لقد اتبثت (إمارة المؤمنين) أنها تملك ذلك اليقين الذي تهزم به اللايقينيات والثابت الذي يصد عتو (المتغيرات القاصمة)..
 
وإذا كان منظرو المستقبليات متخوفون من "السيولة المخيفة" التي تطبع كل شىء في مستقبل العالم؛ إذ أصبح التخوف من الإسلام مشروعا والتوجس من الأقليات سياسة.. والحد من الهجرة حكمة !!
 
بل ما يخيف ويوسع مساحة الشك والتخوف واللايقين هو التمكين عمليا للرؤية المسماة (ما بعد الإنسان) أي تحكم الآلي في الإنسانية؛ وهي رؤية جعلت الخيالي الجدلي للعقل الانساني يبدي الاستسلام ويرفع راية الهزيمة بسبب (القدرة الخارقة والمخيفة التي يبديها المخلوق الايليكتروني ) والتي لايمكن تخيل حدودها ومداها ونتائجها!!
 
إن العقل الإنساني يحتاج مثله مثل غيره من الفعاليات التي يتمتع بها الإنسان إلى (قانون) علوي فوقه؛ يملك سلطة عليه؛ يضبط نشاطه ويرسم حدوده ويوجه إبداعاته إلى (نفع الإنسانية).. ويبدو أن هذا القانون يحتاج في زمن اللايقينيات إلى شجاعة فكرية وجرأة فلسفية لإعلانه والتنظير له والدفاع عنه ..
 
واللحظة التاريخية.. تقتضي أن نعلن بكل أناقة معرفية أننا نملك مساهمة (ذهبية) للخروج من هذا التيه الإنساني وهو (إمارة المؤمنين) وهي رؤية للمستقبل تشق طريقها في افريقيا والعالم برزانة ويقين؛ حاملة لأجوبة لطالما تناسلت أسئلتها في المنتديات الدولية: كيف نحقق السلام؟ كيف نصنع تنمية مستدامة؟ كيف نحد من تلوث مدمر للبيئة؟ كيف ندبر مشكلة الأقليات؟ هل من دور للإيمان في زمن الشك والحريات؟
إنها أسئلة مؤرقة وحارقة..
 
لكننا نقترح على العالم أنموذجنا الفريد..
ونقدمه بلا ادعاءات ولا عنتريات..
ونعرضه بكل تواضع المؤمنين..
 
ونعلن للعالم: نعم؛ إن إمارة المؤمنين كرؤية وتدبير لجدل الايمان والحرية والاختلاف والانسانية؛ ستظل مالكة وخادمة لجوهر الحس الإنساني المشترك المتشوق والمتشوف لعالم بشر به الانبياء والمصلحون عبر التاريخ.. مستقبل يقوم على (الحد في الفساد والتحكم في سفك الدماء) وهما الجريمتان اللذان تستحضرهما "إمارة المؤمنين" بحكم المرجعية الغيبية التي تستبطنها؛ من قول الملائكة عند لحظة التأسيس لزمن الفعل الانساني على الارض (اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء!!) صدق الله العظيم..
 
إن كل التنظيرات والمشاريع التنموية أبرزت وتبرز تعثرها، بل إخفاقها عند هاذين التحددين: "جدل الإصلاح والفساد".. و"جدل الحياة والموت" أو لنقل بعبارة واحدة: "الإطعام من الجوع والأمان من الخوف" وهو المطلب الإنساني الذي ربطه القرآن في "سورة قريش" بوجود الثابت الذي هو (فليعبدوا رب هذا البيت) و في الآية إشارة قوية إلى أن (الطعام والأمن) متأسسان على (الإيمان) ..
 
فمن المستحيل أن يقتنع القوي بكف عدوانه وهو يرى مجال الجار في ضعف.. ومن المستحيل أن يكف المشتهي شهوته وهو يرى (شهوات) في مجال قدرته..
 
وهي المعضلات التي عمقتها الفلسفات السياسية والاستراتيجية بعد أن طلقت (مرجعية التوحيد) وأصبح (العقل) المجرد من مرجعية المركز والثابت المطلقين؛ يفكر وينظر ويخطط بناء على موازين القوة وليس موازين الحق..
 
وهنا تكمن معضلة الانسانية ومستقبلها المقلق؛ وهنا بالذات جوهر قوة إمارة المؤمنين وعقلانيتها المؤمنة..
 
عبد الخالق حسين، رئيس المجلس العلمي لطانطان