الأحد 24 نوفمبر 2024
فن وثقافة

كوكاس: غواية جنس التحقيق في كتاب "بقي منهم ثلاثة"

كوكاس: غواية جنس التحقيق في كتاب "بقي منهم ثلاثة" طلحة جبريل وكتابه "بقي ثلاثة فقط.." وعبد العزيز كوكاس

باستثناء كتاب أو كتابين فيما أذكر، نادرا ما اهتم الصحافيون المغاربة خارج جنس الحوار والتحليل الإخباري والعمود الافتتاحي، بجمع ما كتبوه وإخراجه في كتاب إلى الجمهور، وبالأحرى أن يؤلفوا كتابا حول قضية محددة وترك أثرها لدى العموم كما فعل طلحة جبريل في كتابه "بقي ثلاثة فقط.." الذي يدخل ضمن جنس التحقيق أو الصحافة الاستقصائية، التي لها إغراء خاص وأنت تتبع قضية ملتبسة أو شائكة ومتداخلة الخيوط بحثا عن زاوية نور، أو خيط رقيق يقودك إلى سل كبة الصوف من عُقدها، مع تلك المتعة التي يمنحها إياك التحقيق الذي يساهم في الشفافية ويحفل بأكبر قدر من الأخبار الموثوقة المصادر والمتنوعة المضان.

 

يحمل كتاب طلحة جبريل عنوانا مثيرنا: "بقي ثلاثة فقط.." الذي يحيل على تحول من حال إلى حال عبر النقصان، وعلى رقم يبدو فرضا أنه أصبح ضحلا في الحال بعد أن كان ضخما في السالف وهو ما يستشعرنا بحجم الخسران والفقد والضياع لما سيتحدث عنه التحقيق الصحافي، الذي من سماته الأساسية التفسير والتوضيح الملازم لقضية غامضة تهم فئات واسعة من الجمهور وتطرح أسئلة يُعنى الصحافي المحقق بتوضيحها.. يتناص العنوان عن وعي أو لا وعي، مع قول مأثور للفقيه الكوفي سفيان الثوريُّ: "ما بقي لي مِن نعيمِ الدنيا إلَّا ثلاثٌ"، فيما تشير صورة الغلاف إلى مكان عتيق يميز جل المدن المغربية، لكن العنوان الفرعي يقوم بوظيفة التوضيح، يحدد هوية العنوان الأصلي "قصص وحكايات يهود بني ملال"، ويخرجه من عتمته والتباسه، فنصبح أمام موضوع محدد هو يهود بني ملال، وصورة الغلاف تشير إلى الملاح الذي ميز جل المدن العتيقة بالمغرب، ونفهم أن هؤلاء كانوا كثيري العدد فتبقى منهم ثلاثة فقط اليوم.. كيف حدث ذلك؟ هذا هو موضوع قصة التحقيق.. وقد أنا لنا تقديم ظهر الغلاف بعض مغاليق العنوان بتوضيع فكرة التحقيق وسياقها وكيف آلت إلى كتاب.

 

تضمن كتاب طلحة جبريل "بقي ثلاثة فقط.." عشر فصول إضافة إلى ملحق صور داعمة للتحقيق، كل فصل منها يحمل عنوانا يجيب على جزء من موضوع التحقيق، "باب مغلق يلخص تاريخا معقدا"، "رحيل إيزة بعد حياة موحشة"، "أليس تتذكر أيام الهجرة الكئيبة"، "عبد النبي الحلماوي وعمار.. تعايش وصداقة"، "هاجروا وتركوا خلفهم إعصارا إنسانيا"، "وداعا بني ملال.. وداعا سمك أم الربيع"، "يقتنون زيت الزيتون والخرشوف لتذكروا"، "سلطانة اليهودية أرضعت طفل الجيران"، "رحمة والجميلتان.. وزواج عيد الغفلة"، و"ثلاثة أشخاص ومقبرة.. حكايات وذكريات".

 

كما تقتضي ضوابط جنس التقصي المفصل، أحد الأجناس الصحافية الكبرى والنبيلة، ينطلق طلحة جبريل من تحديد موضوع استقصائه والسياق الذي رافق بزوغ الفكرة وأشواط إنجاز التحقيق بالزيارة الميدانية، وبعدها تحديد زاوية المعالجة، حجر الزاوية في أي تحقيق، أي نقطة انطلاق البحث الاستقصائي وهو ما نجده في مفتتح النص: "قيل لي إن يهود بني ملال كانوا أزيد من ثلاثة آلاف نسمة، لم يبق منهم في المدينة سوى ثلاثة فقط، لم أكن مستعدا لتصديق ما سمعته من روايات، لكنني لم أكن قادرا على تجاهلها"، هذا هو المحفز على إنجاز فكرة/ مادة تعتمد قواعد الصحافة الاستقصائية.. الغرابة والإثارة بالمعنى الصحافي، إثارة الانتباه لا الغرائز.. "ثم طافت برأسي فكرة" يقول المحقق.

 

استغرق عمل طلحة جبريل على موضوعه سنتين من الصحافة الميدانية.... فكانت النتيجة هذا الكتاب بمادته الدسمة التي تعطي الكلمة للمصادر المقربة أو العالمة على اختلاف مستوياتها، بحيث يتم رصد الموضوع عبر أضلاعه المتعددة بغية الوصول إلى الحقيقة، حقيقة تحول الرقم من 3000 إلى 3 فقط من اليهود ببني ملال، مع الإشارة إليهم بصفتهم واسمهم، ويكشف المحقق الدور الخطير الذي لعبته الوكالة اليهودية في تهجير المغاربة إما بالإغراء أو تزوير الحقائق والكذب أو بالقوة....

 

في جنس الصحافة الاستقصائية يهمنا الخبر أي الحقيقة بوعي نقدي يفرض الشك المنهجي في كل الحقائق بغية الوصول إلى اليقين عبر البحث والتحري من مصادر متنوعة لها حجيتها في الموضوع المتناول، لذلك فإن الصحافي طلحة جبريل قبل أن ينتقل إلى الميدان، كوّن أرشيفا ووضع أجندة هواتف لفاعلين معنيين بالموضوع على اختلاف مستوياتهم، ثم بعدها الانتقال إلى عين المكان، إلى الحي الذي كان مشهورا بكثافة اليهود المقيمين فيه، للإمساك بخيوط الموضوع والجواب على سؤال لماذا بقي ثلاثة يهود فقط من أصل 3000 منهم؟ وكيف حدث ذلك؟

 

نلمس دعم الكاتب لبحثه الاستقصائي بمختلف المصادر التي ينير كل واحد منها زاوية من موضوع تاريخي سياسي شائك ومتشابك الخيوط وغير مسبوق البحث فيه على مستوى الجهة (بني ملال)، التي اختارها طلحة جبريل لموضوع تحقيقه. بالإضافة إلى حضور الصورة الداعمة في إطار هذا التحقيق كجزء أساسي من عمل الصحافي.

 

ما يميز كتاب طلحة جبريل "بقي ثلاثة فقط.." بعد الحكي الذي يحفل به تحقيقه ذي الطابع التاريخي-الحضاري، إذ نجد أنفسنا أمام قصةSTORY   بكل عناصرها، شخوص بملامح إنسانية، زمان ومكان وعقدة قضية ملتبسة بنفس درامي تطلّب تشكيلها سنتين من البحث الاستقصائي وعشرات الزيارات الميدانية واللقاءات الصحافية مع المعنيين بالموضوع، إن الكاتب يبقى وفيا للعنوان الفرعي للكتاب "قصص وحكايات يهود بني ملال"، كل ذلك بلغة جميلة أنيقة وممتعة، فيها وصف وسرد.