السبت 6 يوليو 2024
اقتصاد

السياسة الاستراتيجية للتنمية المستدامة لمجموعة الفوسفاط في المجال المائي

السياسة الاستراتيجية للتنمية المستدامة لمجموعة الفوسفاط في المجال المائي الزميل عبد الرحيم أريري رفقة تقنيي محطة تحلية مياه البحر التابعة لمجموعة الفوسفاط بالجرف الأصفر
منذ ستة أشهر وما يزيد، وسكان مدينتي آسفي والجديدة اعتادوا على فتح الصنبور، ليس للتزود بالماء الشروب القادم عبر أنابيب المكتب الوطني للماء والكهرباء الموصولة بمحطات الضخ بالسدود والآبار، بل للتزود بالماء الشروب القادم من محطة تحلية مياه البحر بالجرف الأصفر التابعة لمجموعة المكتب الشريف للفوسفاط، والذي يتم ضخه في شبكة وكالتي التوزيع بكل من عاصمة دكالة وعاصمة عبدة. 
 
فانطلاقا من متم 2023، ومن مطلع 2024، أصبح، على التوالي، 260 ألف نسمة بمدينة الجديدة والجماعات الضاحوية القريبة منها، و340 ألف من ساكنة مدينة آسفي وجماعاتها الضاحوية، أول المستفيدين من المخطط الاستعجالي الذي سطرته الحكومة للتزود بالماء الشروب المنتج من مياه غير اعتيادية، بسبب تداعيات الجفاف الحاد الذي يضرب المغرب للسنة الخامسة على التوالي. أي في المجموع تم إنقاذ 600 ألف نسمة بدكالة وعبدة من العطش، بفضل محطة تحلية مياه البحر التابعة لمجموعة المكتب الشريف للفوسفاط بالجرف الأصفر، وهو ما يمثل 3% من مجموع الساكنة الحضرية بالمغرب.
 
ففي سنة 2022، وبسبب توالي الجفاف، انخفضت حقينة السدود إلى 25%، بعد أن كانت في مستوى 40% سنة 2021، علما أن التوقعات كانت تنذر بالأسوأ في سنة 2023، مما اقتضى من صناع القرار آنذاك التدخل لتعديل خطة تنزيل البرنامج الوطني للتزويد بالماء الشروب وماء السقي (2020/2027)، الذي سبق تقديمه أمام الملك. فأعطي الضوء الأخضر للحكومة لوضع برنامج تكميلي يتضمن تطوير شراكة استراتيجية مع مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط لتعبئة الموارد المائية، لتجنب المزيد من الضغط على حوض أم الربيع المنكوب. وهو ما أثمر اتفاقية مع الحكومة في فبراير 2022. 
 
الشراكة الجديدة بين الحكومة ومجموعة مكتب الفوسفاط نصت بالأساس على إطلاق مشروع لتحلية مياه البحر لتزويد سكان مدينتي الجديدة وآسفي بالماء الشروب، من جهة، ولإنتاج المياه الصناعية للمجمع الصناعي للفوسفاط بالجرف الأصفر وأسفي، من جهة ثانية (خاصة أن المكتب لديه تجربة رائدة في هذا الباب)، بهدف إنتاج 85 مليون متر مكعب في مرحلة أولى استعجالية تمتد بين 2023 و2025، على أساس بلوغ 110 مليون متر مكعب بحلول عام 2026.
 
لكن لماذا استنجدت الحكومة بمجموعة المكتب الشريف للفوسفاط لتزويد مدن متعددة بالماء الشروب؟
 
للجواب على السؤال، يتعين العودة إلى بداية الألفية الحالية التي كانت منعطفا حاسما في تعامل مجموعة مكتب الفوسفاط مع إشكالية الماء بصفة عامة. إذ مع تعيين مصطفى التراب على رأس مجموعة المكتب الشريف الفوسفاط في فبراير 2006، اعتمد المغرب استراتيجية جديدة وطموحة ترتكز بالأساس على وجوب الانتباه إلى أن الفوسفاط إن تم تحويله إلى حامض فوسفوري، سيتم حصد قيمة مضافة عالية بالنسبة للمجموعة وبالتالي للمغرب. فتقرر مضاعفة استخراج الفوسفاط مرتين ومضاعفة الإنتاج في التحويل الصناعي للحامض الفوسفوري بثلاث مراث. وهذا ما طرح تحديا كبيرا أمام مجموعة الفوسفاط، بالنظر إلى أن قرار مضاعفة الاستخراج والإنتاج يتطلب أيضا مضاعفة استعمال الماء بوفرة، وهنا الإشكال: كيف يمكن توفير المياه بوفرة كبيرة في بلد مثل المغرب يعاني إجهادا مائيا؟!
 
وإذا كانت إدارة مجموعة الفوسفاط واعية بإشكالية الماء منذ القدم، بحكم أن معالجة هذه المادة المستخرجة من الأرض تتطلب كميات هائلة من الماء، فإن تعيين مصطفى التراب على رأس المجموعة كان إيذانا بإحداث قطيعة في التعامل مع مشكل الماء، وبالتالي المرور إلى السرعة القصوى في تثمين الموارد المائية، خاصة أن المناجم الفوسفاطية توجد في أحواض جافة وفي أحواض ذات فرشة باطنية مستنزفة. فوضعت الخطة المتمحورة حول ثلاث ركائز:
 
أولا: عدم المساس بمياه الفرشة الباطنية.
 
ثانيا: اللجوء إلى نقل الفوسفاط بأنابيب تحت الأرض، من منجم خريبكة إلى الجرف الأصفر، لمنع تبخر الماء. وهي بالمناسبة أطول أنابيب في العالم لنقل الفوسفاط(150 كلم).
 
ثالثا: الاستعمال العقلاني للماء بإعادة تدوير المياه، عبر إحداث محطات معالجة المياه العادمة لكل من خريبكة وقصبة تادلة والفقيه بنصالح وبنجرير.
 
طموح مجموعة الفوسفاط لم يقف عند هذا الحد، بل كان التطلع لتحقيق "الاستقلال المائي" في معالجة الفوسفاط وتصنيعه دون الاعتماد على المياه الطبيعية المتأتية من السدود أو من الفرشة المائية، بل من المياه ذات المصادر غير الاعتيادية، خاصة أن مجمع الفوسفاط يعد أكبر مجموعة صناعية مستهلكة للماء (يستهلك حوالي 50% من الماء الصناعي بالمغرب). فكان لابد من المرور إلى مستوى آخر يتجلى في تحلية مياه البحر، فتوفق مكتب الفوسفاط عام 2010 في إحداث معمل لتحلية مياه البحر لتزويد المجمع الصناعي للجرف الأصفر. إذ إن العائق الأكبر الذي يواجه معامل تحلية مياه البحر هو ارتفاع كلفة الطاقة التي تشغل المعمل، لكن من حسن حظ المغرب أن الصناعة الفوسفاطية بالجرف الأصفر تولد الطاقة بوفرة وبالمجان، عبر عملية تفاعلية طاردة للحرارة بالمركب الصناعي (réaction exothermique)، فتم استغلال هذه الطاقة لتشغيل محطة تحلية المياه. وبعد نجاح العملية بالجرف، عمم مكتب الفوسفاط التجربة بآسفي. وهو ما مكن مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط من تلبية حاجياته الصناعية من الماء بمجمع الجرف الأصغر وآسفي ( 25 مليون متر مكعب).
 
هذه الخطط الاستباقية التي اعتمدتها مجموعة الفوسفاط، منذ أزيد من 14 سنة، أنقذت المغرب من "السكتة المائية"، على اعتبار أن إدارة الفوسفاط لو لم تفكر مسبقا في حل معضلة الماء لتوقف ليس مكتب الفوسفاط، بل لتوقف العالم الذي تعتمد دول كثيرة فيه على الفوسفاط المغربي (أسمدة وبذور)، لتخصيب تربتها وفلاحتها لتغذية سكان كوكب الأرض.
 
لكن القوة الضاربة لمجموعة الفوسفاط ليست هي تلك "الحجرة" المستخرجة من باطن الأرض وتحويلها إلى أسمدة أو حامض فوسفوري، بل قوتها الضاربة هي الموارد البشرية من أطر تقنية وإدارية، التي لا تعرف إلا الالتزام والتفاني في خدمة المرفق. وهو ما قاد الحكومة إلى التعاقد مع مجموعة الفوسفاط لإنقاذ الجديدة وآسفي من العطش.
 
 
بعد نجاح المخطط الاستعجالي لتلبية حاجيات الجديدة وآسفي، يتم الآن العمل على الوفاء بالتزامات المخطط التوسعي (2023/2030)، عبر ثلاث جبهات:
 
أولا:  تأمين حاجيات خريبكة والكنتور واليوسفية من الماء الشروب، مع الاستمرار في مواكبة تطور مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط لضمان تطلعه في الرفع من حجم إنتاج الماء الشروب من معامل التحلية.
ثانيا: دعم تزويد المدن الأخرى (المتضررة من الإجهاد المائي) بالماء الشروب. وعلى رأسها الشريط الحضري الممتد من جنوب غرب البيضاء إلى سطات عبر برشيد، فضلا عن مراكش.
ثالثا: تأمين الحاجيات الفلاحية في الرحامنة وخريبكة ودكالة بماء السقي.
 
وبفضل تفاني أطر مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط، تشير المعطيات إلى أن المجموعة قد تربح الرهان لتنتج أزيد من 500 مليون متر مكعب من الماء في أفق عام 2027، وهي كمية تفوق بكثير حاجيات مصانع الفوسفاط بشكل سيوجه الفائض من الماء لسقي آلاف الهكتارات الفلاحية، ثم وهذا هو الأهم، لإرواء عطش ساكنة تعادل 20% من الساكنة الحضرية بالمغرب وليس 3% فقط من الساكنة الحضرية، كما تم بالجديدة وآسفي مع بداية الإجهاد المائي.