الأحد 24 نوفمبر 2024
فن وثقافة

حبيب عبد الرب سروري: ما لم يقلهُ الإمام الشافعيّ عن السفر

حبيب عبد الرب سروري: ما لم يقلهُ الإمام الشافعيّ عن السفر حبيب عبد الرب سروري

لِنبيه محمد نبهان...

 

 الكرة الأرضيّة بيت الإنسان

منذ الأزل وحتّى اختراع مفهوم الحدود الجغرافية بين الدول، وجوازات السفر، كانت الكرة الأرضية بيت الإنسان، في الجوهر.

السؤال الأنسبُ، إذن، ليس: لماذا السفر؟، ولكن: كيف يمكن أو يحلو للمرء أن يسكنَ بيتا يجهله، لم يزر بعضَ غُرَفِه؟

كيف يمكنُ ألا يسكنَه هوَس اكتشافِ كلِّ كوكبنا الحبيب، رؤيةِ الآخر في كل مكان عن قرب من "مسافة صفر"، سماعِه، استنشاقِه، الحديثِ معه طويلا عن كلِّ شيء ولا شيء، معرفةِ نمطِ حياته، عاداتِه وتقاليدِه، تاريخِه... باعتبارِهِ أخاهُ وشريكَه في مغامرة أوديسة الحياة الإنسانية على هذا الكوكب.

أَلَسنا جميعا «مِلكٌ لمختبر التجربة والمعرفة الإنسانيّة، نحيا لنعزفَ معاً سيمفونيّة الوجود، ونصغي لها في الوقت نفسه»، كما تقول عبارةٌ في روايتي «أروى».

 

 السفر غايةٌ بحدِّ ذاته:

الرحيل الدائم لاكتشاف العالَم هو، من منظوري، السلوكُ الطبيعيّ للإنسان والمنهج اللازم لحياته. هو غايةٌ بحدِّ ذاته.

وما الاستقرار في المكان غالبا إلا نوعٌ من الكسل، الخمول، التخثّر، ضعفِ شغفِ روح حبّ الاستطلاع؛ إن لم يكن بسبب ضرورةٍ لا مناص منها تقتضي التصفيد في المكان نفسه لِلعمل، لِعقوبةٍ قضائيةٍ في السجن، لِلعزلةِ الصحيّة بسبب جائحةٍ كالكوفيد أو الطاعون، أو لإعاقةٍ من هذا القبيل أو غيره...

الرحيلُ الدائم لاكتشاف العالَم كان دَيدَنَ وغريزةَ هوموسابيان الذي خرج من مهدِه، أفريقيا، ضمن موجات Out of Africa، منذ مئات آلاف السنين وبوسائلِ رحيلٍ بدائية، واكتسحَ العالَم حتى أقصى أطراف استراليا، بدويّا راحلا على الدوام، قبل بدءِ عصر الزراعة والاستقرار الحضريّ في المدن، منذ حوالي 12 ألف سنةٍ فقط.

بفضلِ هوَسِ «رؤيةِ ما وراء الأكمة»، المغروسِ في الحمض النوويّ DNA لأجدادنا الأوائل، طاف الإنسانُ كلَّ كوكب الأرض، سكنَهُ، واحتضنَ العالَم.

 

 السفر طريقٌ لا نهاية له

«لا يمكن للطرقِ أن تَتوقّف، فتلك التي تَتوقّف لا يُعوَّلُ عليها، مثل الأحلامِ التي تنتهي: ليست أحلاماً!»، عبارةٌ استلهمُها من بداية رواية «الطريق الرابع» لناتالي الخوري غريب.

ربما لذلك فضّلَ دانتي نهايةً أخرى لحياةِ عبقريِّ الإلياذة، بطلِ الأوديسة، وسيّدِ الرحّالة والمكتشفين: عوليس.

لم يحبّ أن يختتم البطلُ الأسطوريّ حياتَه، كما هندسها هوميروس، قابعا في مملكتهِ اتيكا، في أحضان زوجته الوفيّة بينلوب، قرب كلبهِ وابنِه الذي صار شابّا، بانتظار أن يموت هنالك على فراشِهِ كما تموت البعير.

أراد دانتي أن يواصل عوليس سفرَه باستمرار، وأن يقتحم أصقاع الأرض المجهولة التي لم يطأها أحد...

يحكي عوليس نفسه، في الكوميديا الإلهية، نهايةَ حياتهِ لدانتي ولِرفيقه واستاذِه: فرجيليو، عندما وجداه في الجحيم:

((عندما رحلتُ عن سيرسي Circé التي احتجزتني وزمرتي أكثر من سنة، لم يكن ثمّة ما يستطيع أن يغلبَ حبَّ استطلاعي وحماستي لأن أصير خبيرا بالدنيا ومساوئ البشر وفضائلهم.

ركبتُ لذلك البحر العميق المفتوح، على متن سفينة، ترافقني الزمرة النادرة التي لم تفارقني أبداً.

كنّا أنا ورفاقي قد أصبحنا شائخين ومنهكين عندما بلغنا ذلك الممرّ الضيّق الذي ترك عنده هرقل علامتَيه(1)، حتّى لا يذهب الإنسان أبعد.

تركتُ عن يميني إشبيلية، وعن الشمّال كنتُ قد تجاوزتُ سبتة.

قلتُ لهم: «إخوتي، يا من اجتزتم آلاف المخاطر، لا ترفضوا اكتشاف هذا العالَم المجهول الذي ينفتحُ لنا باتجاه الشمس.

فما خُلقتم للعيش كالبهائم، بل لابتغاء الفضيلة والمعرفة: هذا ما يقتضيه عِرقكم وطبيعتكم، وما جُبِّلتم عليه».

بهذا الخطاب الموجز، حمّستُ رفاقي لمواصلة الإبحار، إلى درجة أنّي لم أعد قادرا على أن أكبحَ جماحَهم!

أدرنا جؤجؤ سفينتنا نحو الشرق، ماخرين إلى اليسار والجنوب دوما، وجعلنا من مجاديفنا أجنحةً لذلك الطيران المجنون...»)).

أترك للقارئ مواصلة قراءة هذه النهاية الجديدة التي فضّلها دانتي لِحياة عوليس، في الأنشودة 26 من فصل «الجحيم» من «الكوميديا الإلهية».

 

السفر لمعرفة الذات

السفر، ولا شكّ، أفضل وسيلةٍ لمعرفة الذات والآخر، لاستيعاب هموم الإنسان الكبرى، إذا كان شعارُه الدائم: «اعرف الآخرَ تعرف نفسك!». أيْ كي تعرفَها، لا تُقضّي وقتكَ تدور حولها كالخذروف، بل تغلغلْ في استيعاب حياة الآخر، اشتبكْ بعلاقةٍ عميقةٍ به، ادرسْهُ، قارنْ نفسَك به، وستعرفُ ذاتَك حينها، وحينها فقط.

إذْ لا يمكن رؤية الغابة كليّةً إلّا من خارجها، وليس في أثناء القبوعِ في أحد فروع شجراتها.

فمن الذهابِ إلى شجرتهِ تستطيعُ رؤيةَ شجرتِك التي وُلدتَ وترعرعتَ عليها، وليس من التشرنقِ في أحدِ فروع هذه الشجرة.

إذ كيف يمكن لِدُودِ الأرض أن تمتلكَ رؤيةً كاملةً دقيقةً لمربَعِها، لِكرتِها الأرضية؟

كلُّ ما تراهُ في العوالم التي تسافر إليها يجعلك، بلا وعي، تستحضر صورا شبيهةً أو معاكسةً عشتَها في بيئتكَ الحاليّة أو بيئاتكَ الأولى.

يمرّ لذلك في دماغك تيّارٌ دائمٌ يتنقّلُ بين أقطاب مناظر وأساليب حيوات مختلفة، تشتبك نظراتك المتعدّدة للحياة، تتوسّع مداركُك ويتعمّق استيعابكَ للعالَم.

بين السفر والمعرفة علاقةٌ جذريّةٌ حميمة. بفضلهِ تتوسّعُ أطباق موائدك المعرفية والمطبخيّة معاً. تذوق كلّ ما تنتج الأرض من فواكه وروائح وأنماطِ عشقٍ وحياة.

كل المناظر والروائح والمشاعر الجديدة التي تضخّ في وجدانك أثناء السفر تُنعشُ دماغَك، تُشعلُه، تُوقظُ ذكرياته المطمورة وتفتح له آفاقا ونوافذ معرفيّة لا نهاية لها.

 

السفر احتفالٌ بالحريّة

السفر احتفالٌ بالحرية. من لا يرحل بِنعالِ الريح يتخثّر، يتحوّل إلى كتلةٍ متقوقِعة منغلقة، تدور حول نفسها.

فيما من يجتاحُه عشقُ السفر، وإرادةُ التحرّر من الانغلاق، والتحليقُ بعيدا عن سلطة الضرورة والروتين، يجتاحهُ بالتوازي عشق الحريّة وتزداد مداركه وتتضاعف أبعاد حياته. يسكنه هوَسٌ مجنونٌ لأن يصير مواطنا عالميا، لأن ينتمي لكوكبِ الأرض بمجملِه ويشتبكَ بيوميّاته، لأن يستحضر ذاكرته ويواكب مسيرته من قطبه الجنوبيّ إلى الشماليّ.

 

 السفر فنٌّ، طقوسٌ، وفلسفة

السفر فنٌّ وفلسفة. للسفرِ طقوسُه الروحيّة التي تبدأ من تفجّر البهجة لاقتراب موعد سفر، من سعادةِ وحميميةِ إعدادِ حقائبه، من اختيارِ الكتب التي سترافقك خلاله، من دخول الميناء أو المطار بلهفةِ من يذهبُ إلى الحجّ، أو يدخل جامعا أو كاتدرائيّة.

المطارات والموانئ فضاءات كوسموبوليتية بامتياز. جحافلٌ بشريّةٌ متنوّعة تمرّ فيها وتغيب. تراها غالبا لأوّل وآخر مرّة. الجميعُ أمامك في أسعد وأجمل حلَلِه غالبا. يستحيل ألّا تجد فيها جميلةً لا يقرعُ قلبُك عند رؤيتها. أوجهٌ جديدةٌ تستعدّ للتحليق، تعبر أمامك، تحزن لأنّك لن تقابل بعضها إطلاقا...

ترى، مثلاً، من زجاج رواق المطار طوابير طائرات مصطفّةً تنتظر موعد إقلاعها. تبدو لك كالجراد! تستحضر فجأةً ما كنتَ قد نسيتَهُ تماما: جرادٌ مقليٌّ مغموسٌ بالعسل أكلتهُ ذات يوم قديم، في ريفٍ بدوَيٍّ قصيٍّ خارج العالم.

كم كان لذيذا حينها تناول وجبةٍ من قبل التاريخ، على غرار أجدادٍ تجهلهم!...

تزدادُ لهفتُكَ للسفر في كلِّ الأبعاد، في التاريخ والحاضر والمستقبل. تتفجّر الذكريات المطمورة والأحلام المستقبليّة معا وأنت ما زلتَ تعبر الرواق في الطريق إلى مقعد الطائرة...

عند السفر، وفي الحياة عموماً، لا يوجد أفضل من نهج الفلسفة الطاوِيّة: «الطريقُ، بِحدّ ذاته، هو الهدف». أي: ليس الهدفُ محطةَ الوصول النهائية، بل الحياةَ والحركةَ والتنقّلَ على إيقاع المكان والزمن والصدفة، دون تخطيطٍ مسبق.

لنتذكر ما قال كريستوفر كولومبوس: «لا يذهبُ المرء أبعد ما يمكن، إلا عندما يذهبُ حيث لا يدري أين يذهب».

وستيفان مالارميه: «يتقدَّمُ المرءُ فقط عندما يسيرُ نحو المجهول»!

ذلك يعني بالنسبة إلى السّفر: البرمجةُ المسبَقة لِجدول الرحلة، يوماً بعد يوم، من البداية إلى محطّة النهاية، اختيارٌ ضيّقٌ، قاصر، محدودُ القيمة، لا يتّفقُ مع النهج الطاوِي: فنّ السفر بمعناه الأرقى، كمغامرةٍ استكشافيّة على طريقة كريستوفر كولوموبس، أو كتجربةٍ خلّاقة بالمعنى الهيغليّ للتجربة.

فالطريق عموماً (في الفلسفة الطاوِيّة) يُرسَم، أوّلاً بأوّل: لا يتمّ اتّخاذُ قرارِ اتجاهِ الخطوة القادمة إلا بعد الخطوة الحالية، وفي ضوء دروسِها وتجاربها.

 

 السفر عشقٌ

بين طقوس السفرِ، من منظوري، والعشقِ تشابهٌ كليّ. نموذجي في هذه الرؤية: نادر الغريب في روايتي «حفيد سندباد» الذي «يريد أن يحطّ رحاله في كلِّ كوكب الأرض شبرا شبرا، كعاشق يقبِّلُ معشوقته في كلِّ أنحاء الجسد».

يسكنني، مثله، نهم الاكتشاف البوهيميّ الحرّ لكل بقاع كوكبنا، على نحوٍ كليٍّ عاصف.

أما طقوس اكتشاف مكانٍ جديدٍ لأوّل مرّة، مدينةٍ عذراء لم ترها من قبل مثلا، فلها تقاليدها الخاصّة. تدرسها أوّلا بغرامٍ استكشافيٍّ حميم. تدخلُها بهيامٍ عذريٍّ وشذوهٍ تقديسيّ كما لو كنتَ تعانق معشوقةً تكتشفُها وتكتشفكَ لأوّل مرة، تعرفُ مسبقا أنّك ستشتاقُ لها دوما إذا فارقتها طويلا...

 

 السفر والكتابة

بين السفر والكتابة الروائيّة عروةٌ وثقى لا انفصام لها، في منظوري. إذ ليس السفر حافزاً ووسيلةً مُثلى للكتابة فقط، لكنه بالنسبة لي غايتها أيضا.

كل رواياتي سفرٌ جغرافيٌّ وتخييليٌّ دائم. تجسّدتْ علاقتي بالترحالين منذ روايتي الأولى بالعربية «دملان» التي انطلقتْ من أفياء ولادة الراوي في تنزانيا، وغرامهِ التأسيسيّ الجينيّ بمَهدِ نوعِنا البيولوجيّ الإنسانيّ، في منتزهات سرينجيتي الأفريقيّة، قرب جبال نجورو نجورو وبحيرة مانيارا: «وادي الإنسان»، ومنها إلى بطاح مختلفة في كلّ أرجاء العالَم، ومنها إلى مدن تخييليّة خالصة ك «دملان».

كان الترحالُ الجغرافي حافزًا يُذكي مشروع الرواية في كلِّ أعمالي الروائيّة. لرحلتي (الخالدة في فؤادي)، على سبيل المثال، لبلاد الأكوادور وجزر الجلاباجوس في أقصاها، وتقفِّي خطوات رحلة سفينة «بيجل» لداروين هناك، الفضل الأكبر في تأثيث روايتي «وحي»...

لعلّ أكثر روايةٍ لي تغوص في الترحال في المكان (كلّ العالَم)، وفي الزمان (الخمسين السنة الأخيرة)، لِرسم سيناريو ما للعالم في عام 2027، هي «حفيد سندباد».

بيد أنّ الترحال غايةٌ بحدِّ ذاته في «جزيرة المطفّفين». يتمّ في أمكنةٍ حقيقيّة مثل «غاب كاليه»، وفي أمكنةٍ تخييليّة كـ «جزيرة المطفِّفين»، لها علاقةٌ عضويّة بالواقع الجغرافيّ للعالَم، أو لها علاقةٌ استباقيّة لما سيصيرهُ مستقبلُ الكرة الأرضيّة، من وجهة نظري.

الترحال في هاتين الروايتين ليس في المكان فقط، بل في الزمان أيضًا، هناك تنقّل «زجزاجيّ» في «جزيرة المطفِّفين» بين «حي ألِف» و «حيّ ياء» في مدينة «أطلس»، المدينة-العالَم.

يبدو الحيّان فيها كما لو يعيشان في عصرين مختلفين، وزمنٍ واحد!

وهناك صدمات كهربائية عند التنقّل بين سماواتٍ موشّحةٍ بـ «قوس قزح» اصطناعي في «حيّ ألف»، وبين بطاح ساحات الحروب في «حيّ ياء».

والترحال دائمٌ في هذه الرواية بين واقع العالَم اليوم ومستقبلِه، وماضيه أيضًا.

لم يغب السفر أيضا في روايتي «تقرير الهدهد» التي تدور حول بطلها الاستثنائي رهين المحبسين: أبي العلاء المعرّي. بعث جلالتُه ابنَ القارح في «رسالة الغفران» ليطوف في جغرافيا الآخرة، متنقّلا بين الجنّة والنار، بين موقف الحشر وجنات الجنّ والحيوانات... وبعثتُ أبا العلاء (أو أبا النزول، كما أطلقَ عليه) في «تقرير الهدهد» من السماء 77 إلى الأرض، مرورا بالكون منذ نشأته، في رحلةٍ خاصة كان فيها «سندبادَ الزمكان».

أمّا في روايتي «نزوح»، فالسفر تجاوز كل الحدود. كان خروجا عن الجاذبية الأرضية ومقاومةً لها. تنقّلٌ بين أرخبيل سقطرى، وبين رحلتين فضائيتين في مركبتين من طرازين مدهشين...                             يتبع

 

هوامش:

*) من مقدمة كتاب عن السفر، سيظهر بعد رحلةٍ قادمة جديدة وطويلة لليابان التي زرتها مرّتين، ولمنغوليا التي لم أزرها بعد.

1) تروي الميثولوجيا الإغريقية أن هرقل أقام هناك عمودين يُشيرين إلى النهاية التي لا ينبغي تجاوزها من أحد. ما بعدها: المجهولُ، الممنوعُ على البشر.