سنة 2022 وفي جو مشحون بجدل واسع حول قرارات صحية أثرت على اقتصاد البلاد، دخلت "كارين جان بيير" الناطقة باسم البيت الأبيض إلى قاعة المؤتمرات الصحافية مرفوقة بأنتوني فاوتشي المستشار الطبي للرئيس الأميركي جو بايدن، وما كاد المؤتمر الصحفي أن ينطلق حتى حدثت مشاحنات بين المراسلين الصحافيين و بين الناطقة باسم البيت الأبيض.
كان الإعلام حينها يوجه الكثير من الانتقاد إلى السياسات التي تتخذها الحكومة الأمريكية إزاء جائحة كورونا، وكان من المألوف في المؤتمرات الصحافية للبيت الأبيض، أن تحدث مشادات بين الناطقين الرسميين وبين الصحافيين الحاضرين، تماما مثل ما يحدث اليوم في مع الناطقين الرسميين للبيت الأبيض في مواجهة الصحافيين، في سياق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مشهد معتاد هناك أن يقوم الصحافييون بركن الناطق الرسمي في الزاوية، وإمطاره بالأسئلة والآراء والتعليقات، و تحدي المعلومات التي يقدمها.
في العالم الموازي هنا بالمغرب،وفي المناسبات القليلة التي تابعت فيها مؤتمرات صحفية للمنتخب المغربي خصوصا في زمن كأس العالم بقطر، كنت كصحافي أولا، أحس بأنني في جلسة تعذيب أستمع فيها إلى أغرب الأسئلة والتعاليق من بعض الصحافيين الرياضيين، الذين لا يتقننون فن طرح السؤال ولا صياغته، ونفس الشيء كنت أعيشه في المؤتمرات الصحافية الأسبوعية للناطق باسم الحكومة المغربية، حين كنت مراسلا تلفزيونيا.
هذا الوضع كان يثير الكثير من النقاش والحنق لدى فئة عريضة من زملائي الصحافيين، و من بينهم السيد مراد المتوكل بطل واقعة "خلي رأيك عندك".
هنا سأتخيل مشهدا أمارس فيه بعض الكذب الصادق - على قول المفكر والأديب حسن أوريد – وأحاول تصور ما الذي دار في كواليس المؤتمر الصحفي الذي سبق مباراة المنتخب المغربي بأكادير بداية الشهر الجاري مع فريق لا أذكره، ببساطة لأنني لست متابعا لكرة القدم ولا مولوعا بها.
أتخيل أنه قبل أن يدخل إلى المؤتمر الصحافي بأكادير، كان مراد المتوكل يجلس إلى جانب مدرب المنتخب المغربي وليد الركراكي ويتحدثان حول المستوى الهزيل للتعبير وطرح الأسئلة عند بعض الصحافيين الرياضيين، وتذكرا معا طرائف مضحكة مبكية من مؤتمرات سابقة، أنهيا بعدها حوارهما بقول مراد المتوكل أن الوضع لا يمكن التعبير عنه سوى بأنه N’importe Quoi، ثم دخل الرجلان المؤتمر الصحافي على هذا الإيقاع، وهنا ينتهي المشهد المتخيل، لننتقل إلى المشهد الحقيقي الذي يعرفه الجميع.
للإنصاف، فالصحافي مراد المتوكل شخص مشهود له بدماثة الخلق والمهنية، ولكن ردة فعله في الحقيقة لم تكن موفقة، وأعطت عنه صورة لا تتناسب مع تجربته ومستواه، لكن إن حاولنا فهمها في سياق ما ذكرته سابقا حول مستوى بعض الصحافيين في المؤتمرات الصحافية، فلربما نجد للرجل بعض التفهم.
معذرة، بدأت مقالتي بالبيت الأبيض، ثم وصلت بكم إلى قاعة مؤتمر صحافي في أكادير فقط لكي أثير الانتباه إلى نقاش مهني دار بين الزملاء الصحافيين حول مسألة هل للصحافي في المؤتمرات الصحافية أن يطرح رأيه أم لا؟
كنت قبل فترة قد طرحت سؤالا على صفحتي على الفيسبوك أقول فيه:
"من قال أن الصحافي ممنوع من الإفصاح عن رأيه في الندوات الصحفية؟ في أي فصل من علوم الإعلام تدرس هذه القاعدة؟"
صحيح، هل هناك قاعدة تقول أنه على الصحافي أن يطرح الأسئلة المباشرة فقط، وأن لا يطرح الأسئلة الضمنية التي قد يكون التعبير عن الرأي أحد أوجهها؟
أنا لست أدري إن كان الصحافي الذي طرح رأيه حول مدى جدية المنتخب الوطني مقارنة بمرحلة كأس العالم يعي الفرق بين السؤال المباشر والسؤال الضمني، أو أنه فقط طرح رأيه كحكم قيمة على المنتخب والناخب..
لست هنا بصدد الدفاع عنه، بل بشكل عام، قد أعتبره جزءاً من مشهد إعلامي يعاني مشاكل حقيقية، وكان من سوء حظه أو حسنه أن واجه قيدوم صحافة أفرغ فيه جام غضبه على المشهد الموبوء
ينسب لجورج أوريل أنه كان يقول "الصحافة هي أن تنشر ما لا يريد أحدهم أن يراه منشورا.. ما عدا ذلك مجرد علاقات عامة."
اليوم ثمة من يفهم أن الصحافة مجرد عمل علاقات عامة، وأن الصحافي لا شأن له بنقاش عمومي ولا بإنتاج الرأي، بل أجدني مصدوما من تبني بعض زملاء المهنة لذات الطرح، معتبرين أن إنتاج الرأي مخالف بالضرورة لشرط الموضوعية، ولكنني قد أقول بدون تحفظ أن هذا الرأي فيه الكثير من السذاجة والتسطيح لدور الصحافي الأكثر عمقا و تعقيدا من هذا الفهم البسيط
الصحافي أيتها السيدت أيها السادة، قائد رأي قبل أن يكون ناقلا للمعلومة، خصوصا في عصرنا الحالي الذي أصبحت فيه المعلومة متاحة، وإلا فإننا لم نعد في حاجة إلى الصحافي.
الصحافي من أدواره أن ينقل للمسؤول قلق الشارع، وأن يضعه في مواجهة الرأي العام
والرأي من أدوات الصحافي، لكن في نفس الوقت، لا يمكنه أن يتحول إلى مجرد أحكام قيمة أو أن يجعل من الصحافي قاضيا.
بالنسبة إلي، طرح الرأي مشروع، لكنه أيضا مشروط.
سعيد كان: صحافي مستقل