عش رجباً ترى عَجباً!!
كم هو حكيم وواقعي هذا المَثَل العربي القديم، رغم ظاهره الفضفاض والقابل لشتى التآويل والاحتمالات!!
القضية وما فيها أننا طلع علينا قبل أيام مواطن مغربي، يمكن اعتباره "ظاهرة صوتية صاخبة" بكل المعايير، صاح فينا قبل نحو عقد ونصف مردداً شعاراً حربائيا يقول فيه، وكانت المناسبة آنئذٍ وقوف الانتخابات التشريعية على الأبواب: "صوتك فرصتك ضد الفساد"... فكان شعارا ذكيا، بكل المعايير أيضاً، جعله وحزبه يفوز بأغلبية ساحقة بوّأته مقعد رئاسة الحكومة، كأول رئيس للسلطة التنفيذية في العهد الجديد، وكأول خطوة تخطوها بلادنا في طريق تناوب حقيقي على السلطة محتكمٍ إلى صناديق الاقتراع، ومرتهنٍ بالإرادة الشعبية، بغض النظر عن بعض الممارسات الموروثة عن العهد القديم الذي ولّى إلى غير رجعة...
إنّ الذي ينبغي تسجيله في ذلك الحدث غير المسبوق، أنه:
*أولا، أشّر على تصويت عقابي لأغلبية الناخبين ضد مرشحي أحزابهم التي سئم المغاربة قاطبة من سلبيتها المفرطة، فكانت ظاهرةً غيرَ مسبوقة، أن نشهد عقابا شعبيا جماعيا وتلقائيا لسياسيين أثبت الواقع عدم أهليتهم لتحمّل مسؤولية تدبير الشأن العام، في مغرب صار فعلا غير شبيه بالمغرب الذي سبقه؛
*ثانياً، أن الاختيار الشعبي وقع على حزب ذي توجه "إسلاموي"، بالرغم من كل الشكوك التي كانت تحيط بهذا النوع من الأحزاب، بالنظر لتجاربها الفاشلة في دول عربية ومسلمة غير قليلة مثل تونس ومصر، فضلا عن المحاربة الشرسة التي كانت هذه التجارب تتلقّاها على أيدي قوى غربية ليست في حقيقة أمرها معادية للإسلام "الأصيل" كما يُروّج لذلك كثير من الإسلامويين، بقدر ما كانت تُراقب تَصاعُد التيار السلفي المتشدد، الذي كان أوّل المُسيئين لذلك "الإسلام الأصيل"، وأول الباصمين بمقولاته وسلوكاته المتطرفة على انحرافه عن الوسطية والاعتدال لحساب فكر تكفيري إقصائي يحلم أصحابه ببعثة خلافة إسلامية يعلم اليومَ أصحابُ العقول انها لم تكن مثالية؛
*ثالثاً، أن هذا الحزب، الذي كان يرأسه هذا المواطن الصاخب، اتضح بعد تجربة عُشارية أنه كان خاوِيَ الوِفاض، منذ أن قال زعيمه في وجه المفسدين قولته الشهيرة "عفا الله عما سلف" دون ان يسترد منهم ما نهبوه من المال العام، واتّضح أيضاً أن جعبته لم يكن فيها ما يمكن الإتيان به كقيمة مضافة للتجربة الديمقراطية المغربية، وتأكّد بالتالي أن الاختيار الشعبي الذي وقع عليه مرتين متتاليتين لم يكن لسواد عيون زعمائه المُلَسَّنين، الذين ملأوا الدنيا صِياحا طوال عشر سنوات مرت كعشرة قرون لفرط ثقلها ورتابتها، وإنما كان بالفعل اختياراً عقابيا للأحزاب التي سمّت نفسها بالوطنية في زمن مضى، إلى غير رجعة هو الآخر، وبالتالي فبمجرد انقضاء العهدة التشريعية والتنفيذية الثانية عاد "مناضلو" تلك الأحزاب إلى "مخادعهم الانتخابة" من جديد، لتعود التجربة الديمقراطية المغربية إلى سابق عهدها، بعد أن اتضح للناخبين من مختلف المشارب والانتماءات أن الأحزاب صارت منسوخةً عن بعضها، وأن يمينها صار شبيها بيسارها من كل الجوانب إلا مَن رحم ربّك... وهكذا عاد ذلك المواطن الصاخب وحزبه إلى سابق وزنهما، الشبيه بوزن الذبابة أو الريشة، بتعبير الرياضات العنيفة، وعادا يعيشان في الظلّ "في ثبات ونبات ويُخلّفان صبياناً وبنات"، بتعبير قصص الأطفال التي خبرناها ونحن صغار ونَذكُر الآن أنها كانت ممتعةً وأكثرَ تشويقاً ومَبعثاً للمَرَح مما نحن بصدد الحديث عنه في هذه الساعة!!!
نهايته، أن هذا المواطن الصاخب خرج علينا في عز قَرَفِنا واشمئزازنا من سلوكات وممارسات جارتنا الشرقية، المدمنة أمام العالم على مختلف أشكال البِغاء السياسي، ليذرف علينا دموع "الأخوة في الله والدين والتاريخ"... وهلمّ زيفاً ونشازاً، إلى درجةٍ من التماهي جعلته يصف المغرب بالمخطئ مناصفةً مع تلك الجارة، وينخرط بعد ذلك التصنيف الغبيّ في دعوتنا معاً وعلى قدم المساواة إلى "التعقل والعودة إلى الصواب"، والأكثر من ذلك والأدهى، أنه يفعل ذلك وهو منخرط في اتصال مستمر بقيادات حماس العميلة، التي يعلم العالم، ونحن المغاربة قبله، بأنها ليست إلا بيادقَ في ايدي المخابرات الإيرانية... وهذا موضوع آخر سبق أن وفّيناه حقه من السَّبْر والتوضيح في مقالات سالفة!!!
نعم... إنّ الحديث هنا عن السي عبد الإله بنكيران، الذي يبدو أنه حاول بكل الوسائل أن يعود إلى ساحة الفعل السياسي، فلم يُفلح في ذلك لأن ذاكرة المغاربة ليست كذاكرة السمك أو الذباب، فلما نَفَدَت حِيَلُه وتَماهياتُه لم يجد سوى السباحة ضد تيار الوطنية الجارف، فخالف بذلك كل المسارات التي اتخذها "مغرب اليوم" جاعلةً منه مخالِفاً تمام المخالفة "لمغرب الأمس"، ليتضح من جديد وككل مرة، أن السي عبد الإله مازال متقلّبا في ثنايا المغرب القديم، الذي تجاوزناه جميعا "إلاّ مَن نَأَى عنه ربُّك"!!!
والآن... ألم يعلم السي عبد الإله أن الجزائر هي التي تعلن للعالم بشتى الوسائل رغبتها في تقسيم ترابنا الوطني وفصلنا عن إخواننا وذوينا في جنوبنا الغربي؟ وأنها هي التي تعادينا وتربّي أجيالها المتتالية والصاعدة على مُعاداتِنا؟ وأنها هي التي أقفلت الحدود في وجوهنا؟ وقطعت العلاقات الدبلوماسية معنا؟ وأقفلت الأجواء فقطّعت بذلك الأرحام، وكل ذلك من جانب واحد؟ وأنها هي التي سَمّتْنا "عدواً كلاسيكياً" وعاملتنا على ذلك الأساس حتى أن رئيسها الدمية وصف قطيعتها معنا بالباب المسدود وبنقطة "اللاعودة"؟ وأنها هي التي تُحاربُنا في كل المحافل؟ وتُسلّح ميليشيات من المرتزقة اللُّقطاء لضرب مدننا وأبنائنا، ولاحتجاز أخواتٍ وإخوةٍ لنا في مخيمات الذل والعار تحت أنظار العالم، وتسرق فوق ذلك مُقَدَّراتهم من المُؤَن والإعانات؟ وأنها هي التي أنفقت طِوال نصف قرن ما يقارب الألف مليار دولار من مقدَّرات مواطنيها لشراء ذمم مختلف الأنظمة الهجينة والمرتشية في جهات العالم الأربع لتأليبها ضدنا؟ وأنها أخيراً وليس آخراً، تستغل موقعها الراهن كعضو غير دائم العضوية في مجلس الأمن لضرب وحدتنا الترابية، بدلا من القيام بالواجبات التي ترتبها عليها تلك العضوية بوصفها ممثلاً لمجموعة البلاد العربية في ذلك المجلس؟!!
ألا يعلم السي عبد الإله بنكيران ذلك كُلاًّ أو بعضاً؟.. ولا أخاله إلاً عالماً به وزيادة!!!
فعلى من يًزايد هذا الرجل؟.. من يُجيبني هنا أيضاً بموضوعية وبلا مُحاباة؟!!
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي