في كتابه الشيق: أساتذتي في الرياضة علموني أن أفكر"، يعترف الفيلسوف الفرنسي ميشال سير بأفضال أساتذة الرياضة وبمدى أهميتهم في المجتمع، وفي العملية التعليمية على وجه الخصوص. يستمد هؤلاء أهميتهم من مكانة الجسد الذي يروّضونه، والذي يتبوأ المركز في عملية تطور الفرد، سواء نسبة إلى حياته أو نسبة إلى عمله". فنحن لا نتعلم، ولا نكتشف إلا ما يعرف الجسد كيف يقلده، أو ما يعرفه الجسد وهو يتحوّل ويتناسخ في الموضوع الذي يدرسه.
يجري الاعتقاد عادة بأن الذكاء، والعقل أو الحدس، وكل ما ندعوه قدرات ذهنية هي التي تسبق هذه المادة الثقيلة التي نسميها الجسد والحال أن الجسد أكثر خفة مما نظنه عادة، وهو أكثر نعومة، وأكثر قابلية لأن يبرمج ". الجسد مبتكر . الجسد ذكي ولو حتى من طريق قدرته على المحاكاة وعلى التكيف. كتب م. سير: "حينما أغير السرعة داخل السيارة على سبيل المثل، لا أستحضر في ذهني كل مبرهنات الديناميكا الحرارية. مع ذلك، إن أردت أن تكون لي سياقة عقلانية كلية، فلا بد من ذلك وإن لم يكن على إنجازه بكيفية عقلانية، فذلك لأن الجسد يعرف كيف ينجزه حتى قبل أن أفكر في ذلك. وإذا فكرت في جميع الحركات التي يجب علي إنجازها فسأخطئها، بينما إن ترك الجسد وشأنه يكون أكثر انسيابية ومرونة. إنه يعرف كيف يتكيف بكيفية سريعة جدا. لكن بقدر ما أتدرب، ترسو الحركة في جسدي، ويمسك بها هذا الأخير، ويهضمها فينساها". معرفة أمر ما من طريق الجسد، مثل معرفته عن ظهر قلب، أي حينما ينفذ الجسد حركة ما دون التفكير فيها، ودون تدخل الوعي. "إنني أسمي هذا نسيان الحركة، لقد تم إرساء الحركة داخل العضوية، إنها داخل المكان المظلم للجسد، الجسد الذي هو بمثابة علبة سوداء."
أساتذة الرياضة، يعلمون التفكير، لأنهم بالضبط، يعلمون المرونة المكيفة للجسد المستنسخ. تتجلى هذه المرونة على وجه الخصوص، في الكيفية التي تعمل بها اليد إلى حد أنها قد تسبق التفكير في بعض الأحيان. عند حديثه عن انتصار بطل لعبة الشطرنج الروسي كاسباروف في مباراة الإياب ضدّ حاسوب ديب بلو Deep Blue ، تساءل جان بودريار : ما الذي جعل كاسباروف ينتصر ؟"، فرد: "إن أول جواب نجده عند البطل نفسه عندما صرح: "أنا ألعب من غير أن أفكر، يداي تفوقان تفكيري سرعة."
كان هايدغر يحدد الفكر كصنعة وعمل حرفي كعمل يدوي. فاليد التي عن طريقها، كما قال في درسه عن بارمنيدس، تقام الصلاة، وترتكب الجريمة، والتي بها تعطى التحية، ويعبر عن الامتنان والتي بها يتم القسم، والهدي إلى الطريق"، تتميز عن باقي الأعضاء الأخرى لكونها عضو الإنسان الناطق الإنسان المتكلم المفكر. إنها ذكية، وهي ذكية لأنها تقوى" ولأنها تستبق وتتوقع فهي ليست أداة للاستعمال المنفرد، إنها كالة بيان أستطيع أن أعزف عليها ما أرغب عزفه من موسيقى."
لا ينبغي أن يذهب بنا التماثل الى أن نقيس مهارة اليد على مهارة الأصابع التي تنقر على الحاسوب. لذا يميز هايدغر تمييزا واضحا اليد عن أصابعها. الأصابع أدوات عد وإحصاء وحساب وليس من قبيل المصادفة أن ينعت مجال الحاسوب بمجال الديجيتال لفظ ديجيتال Digital" يعود إلى اللفظ اللاتيني digitus الذي يعني الأصبع doigt قبل أن يأخذ الإنسان في النقر على الحاسوب، نقر على آلة الكتابة. والآلة الكاتبة التي تنقر عليها رؤوس أصابعنا، كما كتب هايدغر، "حرمت الإنسان من المجال الذي هو من اختصاص اليد". فهي تفتت الكلمة المنقورة، وتنزل بها إلى مستوى وسائط التواصل" و"المعلومة."
ما تنقره الأصابع ليس هو ما تخطه اليد، وما تتناوله". وحده الخط اليدوي يقترب من المجال الجوهري للكلمة الآلة الكاتبة عند هايدغر هي سحابة بلا دليل ولا علامة". هذه السحابة تخفي جوهر الكلمة. أما اليد فهي التي تتلقى هبة الفكر". سيعمل الحاسوب في ما بعد على أن يصنع المعلومة من الكلمة. بل إنه لن يصبح ممكنا إلا من خلال هذه العملية التي تجعل اللغة أكثر فأكثر أداة صنع للمعلومات."
فهل نذهب إلى الاستنتاج مع البعض بأننا في طريق الخسران، وبأن اليد كلما ارتبطت بالة، فقدت كثيرا من قدراتها. وهذا يصدق ربما على الجسد بكامله. فالظاهر أنه يتخلى شيئا فشيئا عن مهاراته، وأن التقنية لا تفتأ تنتزع منه" تلك المهارات؟ يرد م. سير على هذا السؤال بقوله إن الإنسان، ذهنا وجسدا، لا يفقد قدراته كما قد يبدو للبعض، وإنما هو يموضعها". هذا ما يطلق عليه "الداروينية الخارجية " :l'exodarwinisme فالعضوية الحية إذ تتطوّر، فإنها تتطور خارجا عن نفسها. وأعضاء الإنسان وقدراته تتطور خارجا عنه كتب صاحب كتاب "تنويعات حول الجسد": "إنها فكرة خطرت بذهني وأنا أستمع إلى المتذمرين وغيرهم من المحبطين الذين يعتقدون دائما أن الأمور في تدهور، وأن الثقافة تضيع، وأن المعرفة تضيع وأن القيم تضيع... صحيح أن الأمور تضيع حقا إننا نفقد أشياء. لكن هؤلاء الناس لا يدركون إلى أي حد أننا رابحون من وراء ذلك. مع اكتشاف الكتابة، ثم المطبعة والآن المعلوميات، ضيعنا من الذاكرة الكثير بالفعل، إلا أننا لم نضيعها إلا بالمعنى الذي به نقول عن طنجرة ما إنها تضيع السائل الذي تحتويه". بمعنى أن الذاكرة بدل أن تظل ملكة ذاتية، ستنتقل إلى المخطوط، فإلى الكتاب المطبوع، أو إلى ذاكرة الحاسوب. "استنتجت من ذلك فكرة أكثر قوة شيئا ما وهي: العهد بوظائف الجسد خارجا عنه ووضعها داخل موضوع ما، زجاجة الرضاعة على سبيل المثل، هي ثدي قابل للإزالة، والمطرقة، ذراع وقبضة يد قابلتان للإزالة.
لدينا انطباع أن الجسد أضاع الذراع وقبضة اليد اللتين أصبحتا موضوعا من بين موضوعات العالم، شأن زجاجة الرضاعة التي أصبحت موضوعا من موضوعات العالم. وهذا يصدق على الوظائف الجسدية الخالصة العجلة مثلا، لا تفعل سوى الاستفادة من وظائف الدوران للكاحل، والركبة أو الورك فاختراع العجلة هو بمثابة استخراج لهذه المفاصل. وبمجرد ما تعرف هذه الأشياء الوجود، تبدأ في التطور كما لو كانت عضويات تمت موضعتها."
تعمل هذه الداروينية الخارجية" على مصالحة الجسد مع محيطه التقني، كما أنها تنظر إلى الآلة باعتبارها وسيلة يتخذها الجسد لموضعة ذاته. إلا أن هذه الموضعة لا تجعل الجسد يضيع ويُضيّع، فهو لا يفقد قدرات وإنما يُخرجها. إنه لا يخسر وإنما يمتد خارج ذاته. تطور الجسد هو امتداده عبر الزمان وعبر موضوعات التقنية.
عن مجلة "المجلة"