مرة أخرى نجد أنفسنا، داخل موقع «أنفاس بريس»، على خط المواجهة المباشرة مع دعاة الفكر الأصولي المتطرف وأعداء التقدم، وذلك فقط لأننا أثرنا، بتجرد أدائنا الإعلامي ونزاهته، موضوع محاولات جر المدرسة العليا للأساتذة بمرتيل إلى العمل السري الأصولي، إثر برمجة محاضرة سعيد الكملي للحديث عن «حلية معلمي الناس الخير»، التي كان سينظمها نادي «القرآن الكريم والسيرة النبوية»، بتنسيق سعيد القنطري. فكانت النتيجة إلغاء المحاضرة، لأنه تبين للمراجع الإدارية المباشرة لهذه المؤسسة افتقادها للشرط البيداغوجي الأكاديمي من عنوانها الملتبس، ناهيك عن التعبئة لها من طرف التيار الوهابي بعمالتي تطوان والمضيق، مما تبين معه، بخلفية هذا الإنزال، أن هذه المحاضرة تنطوي على مقاصد غير تربوية.
وجراء هذا الإلغاء، رتبت مواقع ظلامية وأصوات أصولية متطرفة، حملة منسقة في تسويق باقتها القاتلة، وهي تستعجل فيها، بمعجم التشقيق على القلوب، المطالبة برأس «أنفاس بريس».
وهذه مناسبة تسمح لنا بتذكير قرائنا والرأي العام ببعض جوانب مرجعيتنا الفكرية والإعلامية، وبثوابت خطنا التحريري في «أنفاس بريس»، انطلاقا من مستويين: أولهما يهم هذه الواقعة/النازلة بالتحديد، وثانيهما يهم طبيعة المعادلة الناظمة للمغرب المستقل بجوهر المنافحة عن الإسلام، كما نتمثله رسالة سماوية ترسخ قيم الوسطية والاعتدال، على خط ثوابت البلاد المذهبية، تماما كما تجسدها وترعاها مؤسسة إمارة المؤمنين، حيث إن خطنا التحريري، في هذا الباب، يستلهم الجوانب المشرقة التنويرية من تراكم خصوصية المغرب المتفتحة. وبالقدر نفسه، فإن تاريخ المغرب الذي يسكننا يجعل خطنا التحريري كذلك في موقع الرصد الإعلامي لكل مخططات إلحاق البلاد بسياقات الأنساق الإديولوجية المغلقة والمتطرفة، غير المنسجمة مع كيمياء تاريخه.
أولا: فبخصوص المستوى الأول، تجدر الإشارة إلى أننا، حين نبهنا إلى خطورة أن تحتضن المدرسة العليا للأساتذة بمرتيل ذلك النشاط، لم نقل إن تلك المؤسسة تمارس العمل السري الأصولي، بل قلنا بالحرف إن الأمر يتعلق بجر المدرسة العليا للأساتذة بمرتيل نحو العمل السري الأصولي»، بالنظر إلى التناقض الحاصل في تدبير مسألة «الدعوة» لهذه المحاضرة، لتتم في سرية عن مجموعة من المهتمين والصحافة والسلطة، بفعل محاولات أطراف ظلامية من داخلها لهدم الدور التنويري للمدارس العليا والمؤسسات الجامعية عبر تطويقها بالمبادرات الأصولية المتعارضة مع جوهر اختياراتنا الدينية وأفق بناء الإنسان/المواطن، خاصة أن الدعوة للمحاضرة عرفت تهييجا من طرف الأصوليين لإنزال بأنصارهم بهدف استعراض القوة ضد المجتمع و الدولة.
كما أننا حين أبرزنا انتظام هوية المحاضر ضمن سياق مغاير، فلم يكن ذلك بغرض الإساءة إلى العلم والعلماء، ولكن بغرض بيان أن المحاضر ليس له ما يقدم للطلبة في مجال البيداغوجيا والديداكتيك. أما ممارسة الدعوة، فمجاله مكان آخر. لذلك، كان من الضروري بيان سياسة الخلط لدى الأصوليين، وعيا منا بأن التدريس الجامعي ورسالة العلماء الحقيقيين يكمنان في دعم مسار التقدم والتحديث والتنوير في بلادنا، من موقع تكامل وظائف مختلف مكونات الفضاء العمومي. لذلك، فالاستحقاق الذي ينتظرنا هو اندراج وظيفة العلماء المتنورين ضمن نسق المؤسسات للبلاد. وعلى الشيخ الكملي أن يختار موقعه بعناية ووضوح في المرة القادمة.
ثانيا: أما المستوى الثاني، فيتعلق بما هو أكبر من ذلك اللقاء الملغى، ومن أهدافه وامتداداته في مرتيل والشمال، الذي عرف، على امتداد العشرين سنة الماضية، جهدا كبيرا من الدولة، لتكون المنطقة واحة للتسامح وللتدين المغربي الأصيل، مع ما صرف من مليارات من الدراهم لإقرار ذلك الطموح. لكن الذي حصل هو بروز أنوية الظلام والتزمت، وتزايد توالد شبكات التطرف والإرهاب، بدليل أن عددا من أفراد تلك الشبكات الإرهابية التي تم تفكيكها ينحدر معظمهم من مدن الشمال، التي تحولت إلى منبت الإرهاب.
والملاحظ أن ما دعم امتداد هذا الزحف الأسود هو ارتخاء عضلات المؤسسات الرسمية المعنية بتحصين النشاط الديني، وفي مقدمتها المجالس العلمية المحلية ومندوبيات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المفروض فيهما حماية الأمن الروحي للمغاربة، والانتصار للتدين المغربي.
والأنكى في ذلك، أن هذه المؤسسات الرسمية هي نفسها صارت مخترقة من الفكر الظلامي ومن رواده والدعوة إليه، بدليل أن سعيد القنطري (رئيس النادي المنظم للمحاضرة الملغومة بمرتيل)، الذي هو عضو المجلس العلمي لتطوان، هو نفسه من يروج للمواقف الأصولية من موقع التأطير الرسمي للمجلس العلمي!
ويكفي بعض كاشفات الأضواء للوقوف على أن تدبير الحقل الديني ليس بالوضوح والأثر الذي عليه شرعية وفعالية إمارة المؤمنين في المعمار المؤسساتي للمغرب. ولا شك أن هذه المفارقة مضرة بوظيفة المجال المحفوظ، شعبيا وشرعيا وتاريخيا ودستوريا، لمؤسسة إمارة المؤمنين.
ويبقى من المثير بهذه العتبات، في هذا المخاض المجتمعي الفكري العام، استقالة المجتمع المدني، والتقدمي على نحو خاص، حيث يبدو كما لو أنه تخلى عن مهامه المدنية ودوره التحديثي، مع العلم أنه لن يكون لهذا المجتمع مبرر وجود، ما لم ينخرط في فضح زيف مخططات المتطرفين والظلاميين، وفي حماية المغاربة من سطوة وسياط تيارات هؤلاء، في كل امتداداتها الوهابية والإخوانية وما شابهها.
وهنا، نجدد التأكيد، بالإجمال، على أن معركة نصرة جبهة الأمل ضد جبهة التزمت والظلام والتطرف ليست فقط معركة إعلامية أو فكرية، بل هي أيضا معركة مجتمع يسعى إلى حماية تدينه المغربي وتحصين أمنه الروحي واستقراره السياسي والاجتماعي.