من المعلومات التاريخية الهامة والدالة التي قليلا ما نعرفها (كم هو مستغرب أنها لا تدرج ضمن مناهج التعليم والتربية بمدارسنا المغربية)، ترجمة السلطان المغربي محمد بن عبد الرحمان (محمد الرابع) لكتاب في العلوم الرياضية كان مرجعا عالميا في القرن 19 إلى اللغة العربية سنة 1852، لصاحبه عالم الفلك والرياضيات الفرنسي جوزيف جيروم لالاند الذي صدر بباريس في أربعة أجزاء ما بين 1764 و 1792، تحت عنوان كبير "رسالة في علم الفلك".
كثير من المعلومات التاريخية الواردة بمصادر متعددة (كتاب الإستقصا للناصري وكتاب إتحاف الأعلام وكتاب الصولة لعبد الرحمن بن زيدان وكتاب مظاهر يقظة المغرب لمحمد المنوني)، تؤكد أن هذا السلطان المغربي كان متحمسا جدا لترجمة العلوم الرياضية والفيزيائية وعلوم الفلك إلى اللغة العربية، بدليل تكليفه أسيرا إنجليزيا أسلم بترجمة كتاب نيوتن (ضاعت هذه الترجمة للأسف أو اختفت في أرشيف وزارة حرب أروبية ما). مثلما أنه حرص على تعلم الرياضيات الحديثة وعلم الفلك بمرجعياته الفيزيائية الجديدة في زمنه.
كان الحافز الذي دفع هذا السلطان المغربي إلى الإهتمام بالعلوم الحقة الجديدة، ما تعرض له من هزيمة عسكرية بموقعة إسلي أمام الجيش الفرنسي المحتل للجزائر وهو حينها ولي للعهد بتكليف من والده السلطان مولاي عبد الرحمان صيف 1844 (يوم 14 غشت). من حينها اقتنع بضرورة إصلاح الدولة المغربية وشرع منذ كان بعد وليا للعهد وخليفة لوالده بعاصمة الجنوب المغربي مراكش في التقعيد والتخطيط لذلك، كان من ضمنها إعادة إصلاح الجيش المغربي وتحديثه وصناعة الأسلحة وترجمة العلوم الرياضية والفيزيائية والطبية (أول بعثة لدراسة الطب إلى مصر كانت في عهده) وأخيرا اتخاد قرار إرسال بعثات طلابية مغربية إلى مصر وإسطنبول وجبل طارق وإنجلترا.
ما يهمنا هنا هو إشرافه شخصيا على مدى شهور على ترجمة هذا الكتاب العلمي الرفيع ما بين 1850 و1852 وهو لا يزال وليا للعهد بمراكش. حيث كلف شبابا مغاربة من جيله ممن يتقنون اللغات الأجنبية ولهم معارف بعلم الفلك والرياضيات لترجمة أجزاء هذا الكتاب العلمي الدقيق واختار هو له عنوانه وكتب مقدمته التي يُبرِزُ فيها إلمامه العلمي الدقيق بالعلوم الحقة خاصة الرياضيات والفيزياء بدليل ضبطه للمصطلحات والمقاصد العلمية منها. بل إن مما تجمع عليه المصادر المغربية أعلاه أنه كان يتلقى من أولئك المترجمين المغاربة الشباب فصولا من الترجمة يعيد قراءتها وتصحيحها وإبداء ملاحظاته حولها على مدى شهور.
هنا نص مقدمة ذلك الكتاب التي حررها السلطان محمد الرابع بيده والذي صدر تحت عنوان "الجامع المقرب، النافع المعرب":
" أما بعد، فيقول العبد المتوكل على الله، المعتصم في جميع أموره بمولاه، محمد بن أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين مولانا عبد الرحمن بن هشام..
إنني لما نظرت في هذه العلوم الرياضية، التي منها الحساب والهيئة والهندسة، وهي إبراز الحساب من الكم إلى الكيف، وإبراز الهيئة من القوة إلى الفعل، وغايتها المجسطي، وجدت الوقوف على كنه التحقيق المحض منها لا يكون بمجرد التقليد فيها.
ولما كان ذلك لابد فيه من الرصد للأجرام العلوية ومشاهدة أمكنتها من أفلاكها ومقادير حركاتها في الأزمان المختلفة، وكان الرصد المذكور في بلادنا وزماننا متعذرا أو متعسرا، ولكن ما لا يمكن كله لا يترك كله، بحثنا من أجل ذلك (لا جرم) كل البحث عن أقرب الأرصاد إلى زماننا، فوجدنا كتابا حفيلا عجيبا جامعا لكل ما يحتاج إليه الناظر في هذه الصناعة، بحيث لا يتوقف على غيره من الأوضاع، ناهيك من كتاب لا يدرك وصفه الواصف بمقاله. مع ما اعتمده مؤلفه والتزمه من التحرير البالغ غاية الغايات. والتوقيف على كل العويصات وكشف الخفيات، وتأييد المسائل بالحجج الواضحة اليقينية والأشكال الهندسية والأمثلة العددية والأقيسة الجبرية ورد الفروع إلى أصولها. ثم أخذ ما وافق العيان والرصد الجديد وإلغاء ما دون ذلك. إلا أنه باللسان والقلم الأعجميين، لأن مؤلفه رومي من أهل بارز وكان رصده الأخير سنة 1793 بالتاريخ المسيحي.
وكان من فضل الله علينا أن حضرتنا العالية بالله تعالى قد احتوت على جماعة وافرة ممن آوتهم ظلال دولتنا الشريفة المنصورة الظافرة، ربيناهم في خدمتنا أحسن تربية وصفيناهم لاقتراب أكمل تصفية وأطلعناهم لمكان التخصيص على أسرار هذه العلوم وغذيناهم من جني هذه الفنون بأطيب الطعوم حتى أصبحت حضرتنا العزيزة كعبة النجباء الحذاق ومطافا للعلماء من جميع الآفاق: من كل عارف بالألسنة والأقلام، متهيئ لاكتساب الكمالات بالإستعلام، فأمرناهم بتعريب الكتاب المذكور وإخراجه من الظلمات إلى النور، فصرفوا كل عناية إلى ذلك ودأبوا عليه آناء الليل وأطراف النهار مدة مديدة، مع معاناة أكيدة ومشقة شديدة وكل ذلك بمرأى منا ومسمع ومحضر لنا ومجمع، تعرض علينا كل يوم مخرجاتهم فنبالغ لها بالتنقيح والتصحيح ونرجح منها ما هو داع إلى الترجيح، حتى برز بحمد الله في أحسن الصور وأجملها وأتم الوجوه وأكملها.
فإذا علمت هذا، فاعلم أننا ترجمنا هذا الوضع المبارك ب "الجامع المقرب، النافع المعرب".. " (انتهت المقدمة).
إن من الخلاصات الهامة في هذا الموضوع الذي نطرحه هنا، أن الدولة المغربية منذ هزيمة إسلي أصبحت مسكونة بهم الإصلاح وأنها حاولت تنفيذ مشاريع عدة لأجل تطوير واقع المغرب والمغاربة في القرن 19. ليكبر السؤال لماذا فشلت تلك المحاولات الإصلاحية جميعها أو جلها؟ لو اكتفينا فقط بهذا المشروع الإصلاحي العلمي للسلطان المغربي محمد الرابع لوجدنا أن السبب راجع إلى غياب مشروع طموح وجريئ لإصلاح أهم منظومة لصناعة الإنسان المغربي الجديد التي هي التعليم. للأسف بقي نظام التعليم المغربي حينها عتيقا غير مواكب للشكل البيداغوجي التكويني الجديد والحديث. لأن ترجمة كتب علمية مماثلة مفروض أن تجد لها تلامذة ضمن نظام تعليمي جديد (ذلك ما قامت به اليابان في ذات الفترة الزمنية).
فقط للتوضيح فإن مصطلح "المجسطي" الوارد في المقدمة يعني عند العرب "الأطروحة الرياضية" التي ترجموها عن اليونانية وعن بطليموس وأخدها عنهم الغربيون بذات الإسم العربي حيث كان يكتبون "almagest".