اليوم، قام "شعب مصر العظيم" بتنصيبي باشا، ضدا على ظهير 31 يوليوز 2008، وضدا على رغبة وزير الداخلية، ورغم أني لم ألج إطلاقا المعهد الملكي للإدارة الترابية بالقنيطرة، أو "أسلخ" ست سنوات من عمري المهني في مهنة قائد لأترقى لرتبة باشا.
فخلال مقامي بالقاهرة لمدة أربعة أيام، وأينما حللت وارتحلت، سواء لشركة أو نادي أو مطعم أو متحف أو مسجد أو إدارة أو ملهى أو مركز شرطة أو محل تجاري أو فندقي، لم يكن "شعب مصر العظيم"، يناديني إلا بلقب "يا باشا"، وتفضل "يا باشا"، و"تسلم يا باشا"، و"في خدمتك يا باشا"، و "الله يكرمك يا باشا"، و"نورتينا يا باشا" و"ألف شكر يا باشا".
الباشا، هي لفظة تركية، وهي لقب تشريف في الدولة العثمانية، كان يمنحه السلطان العثماني إلى السياسيين البارزين ولكبار الضباط والشخصيات الهامة ولحكام الأقاليم الخاضعة لحكم الباب العالي بمنطقة الشرق الأوسط. وحسب ويكيبيديا، فلقب الباشا يعادل لقب اللورد LORD في اللغة الإنجليزية.
لكن مع تحلل الأمبراطورية العثمانية، أصبحت الألقاب ( التي كانت رمزًا للوجاهة الاجتماعية أو المنصب الحكومي) تباع وتشترى في مصر. وكان الخديوي إسماعيل، حاكم مصر (من 1863 إلى 1879 ) أحد أهم حكام أسرة محمد علي، وأول من دفع مقابل الحصول عليها.. حيث دفع للسلطان العثماني 32 ألفا من الجنيهات الذهبية للحصول على الخديوية، لأن لقب والي مصر لم يكن ليرضي الطموح السياسي الكبير لإسماعيل.
وهكذا وقع تسونامي وإسهال في استعمال هذه الألقاب بمصر منذ النصف الثاني من القرن 19 وطوال الاحتلال البريطاني، إلى أن تمت الإطاحة بالنظام الملكي عن طريق ثورة الضباط الأحرار عام 1952. إذ في ثاني اجتماع لمجلس الثورة في غشت 1952، قرر ضباط الثورة المصرية (بقيادة جمال عبد الناصر)، إلغاء جميع الألقاب الرسمية والمدنية، على رأسها "الباشا" والبيك"( أي البيه بالنطق المصري)، و"أفندي".
ذلك أن أهم الألقاب التي كانت شائعة في مصر إلى درجة التمييع هي: لقب "أفندي" ويحصل عليه من يصل في التعليم إلى الشهادة الثانوية أو يكمل تعليمه الجامعي. ولقب "بك" ( البيه) ويحصل عليه كبار أفراد الطبقة الوسطى من كبار الموظفين في الدولة.أما أفراد النخبة الاجتماعية والسياسية فكانوا يحصلون على لقب "باشا".
وحتى العام 1975، احترم المصريون قرار الثوة، ولم يكن يسمع في الشارع المصري أيّ من هذه الألقاب. لكن في عهد السادات وفي أوج فترة الانفتاح الاقتصادي والسياسي بمصر بعد 1975، عادت هذه الألقاب مرة أخرى ولكن بطريقة عشوائية وفوضوية وغير رسمية، وخاصة لقبي "الباشوية والبكوية"، وأصبحت الألقاب، التي كانت تمنح لمن يؤدي خدمات كبيرة للبلاد، شائعة بلا صاحب.
وظهرت طبقة من أثرياء الانفتاح الاقتصادي، وأصبح كل واحد منهم يلقب ب"الباشا" تعبيرا عن الوجاهة والمستوى الاجتماعي خاصة أن معظمهم كان ينحدر من طبقات شعبية بسيطة لم تعرف هذه الألقاب أبدا في مسارها. فوقع انزياح في المعجم وتمت "دمقرطة" هذه الألقاب في الشارع المصري لدرجة أن المناداة على مصلح الدراجات ب"الباشمهندس"، أضحت مسألة مألوفة ولا تزعج السمع.
وياللصدف، فلفظة الباشا التي اقتحمت المعجم الإداري والسياسي بالمغرب بسبب الاستعمار الفرنسي (1912\1956)، الذي جلب هذه اللفظة من الجزائر التي كانت خاضعة للحكم العثماني، ها أنذا أنصب "باشا" في مصر التي ورثت اللقب منذ أن كانت تحت الحكم العثماني !
ملحوظة:
الصورة التقطت بميدان التحرير الشهير بالقاهرة، ويظهر في الخلف مجمع التحرير الذي كان مسرحا للفيلم الرائع " الإرهاب والكباب"، الذي تألق فيه الممثل عادل إمام.