لايفوت حزب العدالة والتنمية أية فرصة متاحة للتوغل داخل الحقل الديني بما يثبت انتماءه إلى فكر الحلقية والاستحواذ، وإلى امتداداته المغرقة في السلفية بهدف إغراق المغاربة في أتون التشدد.
مناسبة هذا الاستنتاج إقدام النافذين في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على تهريبالبنية الجديدة داخل البناء الهيكلي العام للوزارة المتمثلة في هيئة "الإرشاد التربوي" الخاصة بالتعليم العتيق للتشويش على التوجه العام للمملكة،وعلى التدين المغربي، وعلى مبدإ إمارة المؤمنين.
لقد ارتبط تأسيس التعليم العتيق بالمغرب بتأسيس الدولة، ولذلك كان دائما الحصن الذي يحمي الهوية الوطنية والدينية للمغاربة على مر التاريخ، سواء في مواجهة التيارات المتشددة القادمة إلينا من الشرق، أو تيار الاجتثاث كما حاولت ممارسته سلطات الحماية الفرنسية. إنها الوظيفة التي اطلع بها هذا النوع من التعليم منذ مدة قبل أن يصاب بالترهل ويتقوقع في بنية مغلقة ومفصولة عن دينامية العصر. ومع توالي الوقت حصل نمو في الوعي بالإشكالية التعليمية والتربوية باتجاه المطالبة بتوحيد التعليم، وبإدارة كل فروعه ضمن نسق تربوي يدرج الناشئة المغربية في سياق التحديث. ولذلك لاحظنا أن كل مشاريع الإصلاح التي عرفها هذا المجال تتجه نحو جعل مؤسساتنا التعليمية تشكل صمان الأمان الفكري والتربوي إزاء كل محاولات التغريب أو "الأسلمة" على حد سواء، ولذلك تتم دوما المطالبة بتفكيك بنية التعليم العتيق شيئا فشيئا حتى تندرج بنياته ضمن خيار التحديث الذي يطمح إليه المغاربة، وحتى يندرج التعليم العتيق في الدينامية العامة التي يعرفها المغرب في الحقول الأخرى: سياسية كانت أو معرفية أو اجتماعية إلخ..
مع توالي الوقت دائما، ومع تمكن حزب العدالة والتنمية من الحصول على السند الانتخابي في قيادة الحكومة إثر الانتخابات التشريعية لسنة 2011، بدا أن للحزب الحاكم (العدالة والتنمية) كلمة مغايرة. ولذلك اتجه نحو خلخلة الثوابت المذهبية في النسق العام للمملكة من خلال "اللعب" داخل المنظومة الدينية، وبالضبط داخل مجال التعليم العتيق،عبر تجريد المناديب من صلاحية تدبير المفتشين وإحداث إطار جديد، ألاوهو "الإرشاد التربوي"، لكن مع مركزة التحكم في التعيين والاختيارمن طرف الدائرين في فلك الحزب الحاكم حتى لاتنفلت الأمور منهم في حال الإبقاء على صلاحيات المناديب، الذين يدين العديد منهم بالتدين المغربي وليس التدين المشرقي الغريب عن ما ألفه المغاربة منذ قرون.
نعرف أن قطاع التعليم العتيق مندرج تحت لواء وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي يقودها، منذ سنوات، أحد وزراء السيادة المطلوب منه ضبط التوازن العام وفق ما تمليه عليه ثوابت البلاد. لكن ما قد يغيب على المراقب السياسي هو أن حزب العدالة والتنمية لا يوجد في المكان التنفيذي الذي يوجد فيه من أجل فقط خدمة المجال العمومي كما قد يتصور المرء، ولذلك يسعى إلى اختراق المجال الديني كطريق للسيطرة على المجتمع برمته، وزرع خلاياه النائمة التي تسمح له بالاستقطاب والإكثار من نسل الأتباع والزبناء الانتخابيين. في هذا الإطار( وبعدما تحكم في جامعة القرويين وكليات أصول الدين) تمكن الحزب الحاكم بالفعل، وحسب ما يتوفر لدينا من معلومات، من التدخل في صنع القرار التربوي داخل أروقة وزارة الأوقاف وهيكلها التنظيمي، في غفلة من الوزير التوفيق المفروض أن "ينتحر" لحماية البيضة. لقد تمكن الحزب، في السنة الماضية، من التأثير في هذه التوازنات بإتاحة مجال التحرك لأطره داخل مديرية التعليم العتيق بابتداع إطار تربوي جديد "الإرشاد التربوي"، وبإسناده للمصالح المركزية التي تتحكم فيها هذه الأطرعبر جسور مبنية مع مسؤولين في المجالس العلمية تفتي وتبارك،لا باعتبار خبرتهم وكفاءاتهم، ولكن باعتبار الولاء للخط المذهبي لحزب العدالة والتنمية، ولحركة التوحيد والإصلاح، وذلك قصد تهريب هذا الإطار والتحكم فيه مركزيا في أفق استراتيجية الهيمنة لدى الحزب الحاكم وتمكينه من ترسيخ أقدامه في الميدان. وسيتبين للملاحظ العام خطورة هذه الخطوة حين تتبين له خطورة الدور المنوط بالمرشدين الذي يتعدى الوظيفة الإدارية إلى ممارسة وظيفة إيديولوجية تمثلت في تشكيل البعض من هؤلاء خلايا مقاتلة تخوض المعارك بالوكالة عن "البيجيدي"، كما حدث خلال الردود على إدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي وعلى أحمد عصيد، الكاتب والناشط الأمازيغي.
إننا إذن أمام تيار جارف يدين بالولاء للمرجعية المذهبية الأصولية لحركة الإصلاح والتوحيد ولذراعها السياسي حزب رئيس الحكومة، ومن خلال ذلك يدين لفكر أصولي يقوم على ترويج إسلام عتيق، برؤى تأويلية طاعنة في التكلس مفصولة عن العصر، وعن حاجة المغاربة إلى فكر تنويري يحبب العالم في الإسلام، ويبعد عنه التهم المفتراة عليه بادعاء كونه مشتلا للتطرف، ولتغذية الخلايا النائمة في المغرب والعالم. لكن ما العمل إزاء هذا التطاول الخطير على مبدإ التوازي الذي يقره التوجه العام للمغرب ملكا وشعبا؟
بهذا الخصوص نلاحظ بمرارة تقاعس الأحزاب واستقالتها عن الفعل داخل المجال الديني لأنها منشغلة بالحسابات الانتخابوية الضيقة، أو بما تعتبره "السياسة الكبرى". كما نلاحظ استقالة هيئات المجتمع المدني من هذا المجال. أما المجالس العلمية، والعلماء والفقهاء بشكل عام فيظل العديد منهم رهينة ممارسة محافظة، وغير مبادرة، مشغولة بالإفتاء في دم الحيض ورضاع ربيب الزوجة وجواز أكل السردين المصطاد في ماء ممزوج بالويسكي ونكاح الميتة فور وفاتها أم بعد غسلها، دون القفز إلى معالجة القضايا الحيوية والأسئلة المقلقة للشعب المغربي. وحدها الأجهزة الأمنية التي تجد نفسها في مواجهة هذا الامتدادات المتطرفة التي قد تنتج عن كل تغاض عن العبث داخل التعليم العتيق، وداخل الحقل الديني بشكل عام.تماما كما لو أن كل الهيئات الحزبية والمدنية والعلمية والثقافية غير معنية بتفاعلات هذا الحقل، أو على الأقل تكتفي بالترديد الرسمي بأن الحقل الديني هو مسؤولية أمير المؤمنين لتبرير استقالتها، في حين أن القنابل الموقوتة قد تهدد كل المجتمع، بما فيه طموح المغرب المشروع إلى أن يكون حديثا متجاوبا مع لغة العصر، متفاعلا مع رياح التحول التي يشهدها العالم.
منذ نشأ المغرب كدولة، وهو يحمي حدوده السيادية، ويعبر عن انتماء العرب والمسلمين إلى تيار الاعتدال الإسلامي، فهل يحق لنا اليوم أن نترك "خوارج" جددا يعبثون بهذا الاختيار المتوازن داخل عالم لن نقوى فيه سوى بتوازننا المعتدل؟ إنه الإشكال الحارق الذي يؤرق نخب الكافيار في العائلة السياسية التي تدعي الانتماء للصف الحداثي والتقدمي ببلادنا.