يعرف علماء الإقتصاد والسياسة والإجتماع وحتى كثير من التقنوقراط، المنفتحين على الفكر الإنساني، أن التنمية تقدم شمولي نحو مرحلة أكبر وأرقى نوعا وكما في كل المجالات. النمو كمفهوم هو مجرد مكون للتنمية لأن مضمون تعريفه كمي. وهذا ما يجعله سهل التتبع عبر كيلومترات الطرق وعدد السدود وكمية الصادرات وعدد بنايات المدارس وحتى منتوج محاصيل القمح خلال سنة معينة.
التنمية لا تنفي الجانب الكمي ولكنها تعكس واجهات أخرى ذات طابع نوعي وإنساني وحضاري. قد نبني أكبر مستشفى في العالم دون أن نحسن مستوى الولوج إلى العلاجات، وقد نبني آلاف المدارس دون أن نقدم منتوجا تربويا يرفع من نسبة استجابة المنظومة التعليمية لحاجيات المجتمع والإقتصاد وحتى لمتطلبات الممارسة السياسية المقبولة. وهذه المؤشرات ذات الأثر على المستويات التربوية والصحية والثقافية هي من مقاييس ومؤشرات تقييم التنمية.
نعيش حاليا أزمة التعامل مع مؤسساتنا. اكتشفنا بكثير من السذاجة أن هناك جيش عرمرم من المفسدين ولجوا عالم التدبير العام ببلادنا. اكتشفنا بتغافل كبير وتجاهل يشبه " تجاهل العارفين" بأن المفسدين يسكنون بين ظهرانينا "سياسيا واقتصاديا وثقافيا ورياضيا". اكتشفنا بكثير من التجاهل أن الرشوة تزايد حجمها وتسبب في تراجع بلادنا عالميا في كل مؤشرات غياب الشفافية واستمرار الأشرار في مجابهة كل الارادات الطامحة إلى تأصيل بناء دولة الحق والقانون.
منظمة ترانسبرانسي الدولية تتابع عن كثب تطور مؤشر "إدراك الفساد" في المغرب. تراجعت بلادنا خلال سنوات قليلة لتفقد 23 رتبة على صعيد التصنيف العالمي. وبعد أن تحسنت مرتبتنا خلال سنة 2018 حيث وصلنا إلى الرتبة 33 عالميا، قرر بعضنا من النافذين، وأصحاب المنصب والقرار، أن نتراجع إلى المراتب الدنيا ولم تتفاعل المؤسسات الحكومية مع ضرورة تغليب حضور الشفافية واستمرار محاربة المفسدين. صحيح أن لدينا مؤسسة نابعة من السلطة القضائية وهي رئاسة النيابة العامة ولديها رقم للتبليغ عن المرتشين، ولدينا كذلك هيئة حكامة موجهة لمحاربة الرشوة ودعم ثقافة الاستقامة في تدبير الشأن العام. ولكن الواقع يظهر أن هناك تزايد استنزاف لقدرات الدولة في معركة محاربة المفسدين والمرتشين. وزير يقول أمام البرلمان أن الفساد كان دائما حاضرا في مجتمعنا وأن الجنة والنار هي الخط الفاصل لتبيان الحق من الباطل، وهذا قمة في التبرير وفي التنكر لكل المبادىء التي تبني ولا تهدم منظومتنا الثقافية والأخلاقية. لو كان وزير العدل وفريقه في موقع المعارضة لأرغد و أزبد، ولكن أسرار الكرسي وتملك السلطة تمحي من الذاكرة كل ما هو جميل. والضحية وطن ومواطن ومؤسسات.
الاغتناء السريع والسعي إليه بكل الوسائل يعمي الأبصار ويهون صعوبة مواجهة المؤسسات. كيف يمكن أن نقرأ، بهدوء وعمق، فصل السلط الذي كرسه دستور 2011. اليوم السياسي المغربي يئن تحت وطأة التسيب في الأقوال والأفعال وضعف الإنصاف. كان الوزير يختار القول المسؤول ويتحاشى الكذب المفضوح والتراجع المقيت عن مواقف الأمس. الاغتناء غير المشروع، في لغة بعض أنصاف السياسيين ، أصبح ضارا بقرينة البراءة. الرسالة واضحة يا من تريدون شرا بالوطن. الإرادة قلب كل الموازين و الثقة في كل شيء وإرجاع كل انتقاد أو تساؤل عن المفسدين إلى جريمة مستأصلة في اللاشعور، وهي دينية وأخلاقية إسمها الحسد والعياذ بالله.
وستظل الحقيقة أن المغرب يوجد في أسفل الترتيب العالمي في مجال الفساد. هذا الأخير ظاهرة خطيرة تستهدف المؤسسات وهدفها الأسمى إضعاف بلادنا وتأخير كل الإصلاحات الهيكلية التي تهدف إلى تحسين مناخ الإستثمار ودعم التغطية الإجتماعية والقضاء على منتحلي صفة الفاعل السياسي الذي يريد بنا الشر كل الشر. والختم بقول إبن النحوي في قصيدة المنفرجة: "وخيار القوم حماتهم... وسواهم من همج الهمج "الهمج لم يجد، مع الأسف، من يلجمه. تقدم كثيرا لكي يعيث في الأرض فسادا.
السؤال الكبير هو كيف نواجه الفساد. الحكومة تقول على لسان وزير العدل أن الإثبات يتطلب علم العلماء وكشف الحجاب عن الخبراء ومقارعة الحجة بالحجة. لا يهمكم إن تحول فقيركم إلى غنيكم دون أن يستثمر في شيء سوى ولوج إلى مركز قرار بعد حصول على تزكية انتخابية والصرف بسخاء على حملة وعلى من تعود ربح "دريهمات" مقابل وضع ورقة في صندوق زجاجي. وشفافية هذا الزجاج لا تضمن شفافية العملية في رمتها.
لنسهل الأمر على وزير عدل في هذا الزمن. يجب أن نكتفي بطرح سؤال على من راكموا ثروات: "من أين لك هذا ؟". إن كانت الثروات التي تراكمت من استثمار أو ريع أو إرث، فلنقل اللهم زد في ذلك. وإن لم تهبط من سماء وكان مصدرها الوحيد منصبا في مجلس أو حكومة، فلا يمكن أن نسمي ما تراكم من أموال أو أملاك بإسم غير الاغتناء غير المشروع. حذاري أيها القادمون إلى السياسة من قلاع الأموال، انكم تدمرون الوطن وتدمرون الكفاءات وتنتصرون للفاسدين وتدفعون اليافعين والشباب إلى كره المؤسسات. وهذه الفعلة إجرام في حق مستقبل الوطن. أتذكر جبنكم خلال 20 فبراير و أتذكر غيابكم المهين خلال أحداث الحسيمة وجرادة.
رجال الدولة هم من يبنون مستقبل الأجيال، أما أنتم فمصيركم مجهول في ظل واقع هذا اليوم الذي تتحرك فيه الدولة لكي يصبح ركن الوطن حجر وسقفه حديد و ينقطع نفس الفساد إلى الأبد.
ولن نبدأ المسير الحقيقي نحو التنمية وجيش الفاسدين يصر على أن يلحق الأضرار بعجلتها. الحذر الحذر فالمفسد خطر على كل ما هو مفيد للوطن. إنه أخطر من كل عدو خارجي ياحماة البلاد.