عانى الصحراويون القاطنون بمخيمات تندوف المتواجدة في الجنوب الغربي للجزائر من تحديات مزدوجة، منذ بدء المشكلة في العام 1975، وتفرعت عن الوضع الجديد إشكالات جديدة، لا ترتبط بشكل مباشر بالصراع السياسي والعسكري بين المملكة المغربية وجبهة البوليساريو، مدعومة عسكريا وسياسيا من طرف الجمهورية الجزائرية وحلفائها سابقا من المعسكر الشرقي، وإنما هي تداعيات ترتبط بمنطق ومنهجية عبثية لتنظيم البوليساريو وحليفها لكسب المزيد من النقاط على حساب ما يقاسيه صحراويو الاحتجاز المطول بأرض لحمادة القاحلة.
لا يسع المجال في هذه المقالة للحديث عن جذور الصراع حول أحقية السيادة على الصحراء، ومن يعبر عن تطلعات الصحراء على ضفتي الجدار الأمني، أهو تنظيم البوليساريو أم ممثلو وشيوخ قبائل الصحراء التقليديين، الذين ما فتئت قيادة الجبهة تقدمهم للأمم المتحدة قربانا لتأكيد حقها الحصري في التمثيل، بينما تزيل عنهم أي حضور فعلي في الحياة السياسية والاجتماعية في المخيمات وفي الصحراء على حد سواء، اعتقادا من مسؤوليها أن السماح بأدنى هامش للتحرك لهاته الزعامات التقليدية، قد ينسف مشروعها.
ولد هذا التعامل المتضارب مع أهالي المخيمات الصحراوية بجنوب غربي الجزائر، من قبل الدولة الحاضنة وجهازها التنفيذي بالمخيمات، لمدة قاربت الخمسين سنة، شعورا عاما بانقطاع الامل في التوصل لأي حل مهما كان حجمه أو نتائجه، لسبب بسيط يتمثل في وقوف الصحراويين على حقيقة مفادها، أن تواجدهم على أرض لحمادة، لم يكن يوما من أجل تقرير مصير، أو مناشدة لاستقلال بعد احتلال اجنبي لأرض شعب كان مستقلا في زمن من الأزمنة الماضية منذ استخلاف الإنسان في الأرض، وإنما نزوع لقضم أراض صحراوية من طرف السلطات الجزائرية بواسطة اللجوء الى خدمات تنظيم عسكري، في حل من أي التزام قانوني أو أخلاقي دولي، لإبعاد شبهة العدوان على بلد جار.
وقد ساهم هذا التحالف الهجين بين نظام يدعي الطهارة الثورية ومساعدة المستضعفين، وتنظيم عسكري توتاليتاري، شكل الصحراويون أول ضحاياه، في تسميم الشعور العام بالانتماء للفضاء الصحراوي لدى الكثير من قاطني المخيمات، وعملت الدولة الحاضنة ومعاونيها بقيادة البوليساريو على صناعة طابوهات وتمثلات جديدة لتلقين أجيال الصحراويين الناشئة، لقطع صلاتها بالأرض والثقافة والارتباط الهوياتي، فمن لم يزهو تفاخرا بعظمة الجزائر وقوتها وكرمها الحاتمي في التكفل وحماية اللاجئين، يوصف بالخيانة للمشروع الوطني وللقضية برمتها، كما أن فئات عريضة من الصحراويين بالمخيمات يرون أن إسبانيا دولة خلاص لا محالة لردم الفقر والمعاناة، وهو لعمري شعور بئيس بالحنين الى مستعمر دخل الصحراء غازيا وتركها وأهلها دون وضع لبنة نمو أو تطور واحدة، إلا بمقدار تعزيز وجوده العسكري والانتفاع من خيرات المنطقة.
إن عدم الإنصات لتطلعات الناس بالمخيمات والاستجابة السريعة لحاجياتهم الإنسانية وضمان أمنهم وحقوقهم المكفولة بموجب الاتفاقيات الدولية الناظمة لحقوق الإنسان، خلف حالة شديدة من الإحساس بالغبن والامتعاض من سياسات البوليساريو والحليف على حد سواء، لكن لا أحد كان يستطيع الجهر برأيه فيما تتعرض له الأسر الصحراوية بالمخيمات، لما واجههم من موجات الشحن الإيديولوجي اتجاه من يخالف توجهات تنظيم البوليساريو والدولة الحاضنة للمخيمات.
ليس من قبيل إفشاء السر، أن فئات عريضة من الصحراويين المتواجدين بالمخيمات، تقاسي الأمرين في علاقة بتدني ظروف عيشهم والسياقات المحيطة بأماكن سكناهم، وانعدام التمتع بالحقوق الواردة باتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين.
فالنساء والطفلات في مختلف نقط إقامة الصحراويين في صحراء لحمادة، تتحمل الجزء الأكبر من المعاناة داخل المخيمات وخارجها، بالرغم مما يتم التسويق له، بخصوص ما تحظى به المرأة من مكانة وسط المخيمات، وهو ما لا يتسق مع ما ارتكبه البوليساريو من جرائم تهجير قسري لطفلات قاصرات الى أمريكا اللاتينية وإسبانيا ومناطق أخرى لمدد طويلة، تجاوزت في أدناها العشر سنوات، بهدف الدراسة والتحصيل، غير أن تلك الأهداف المعلنة، لم تكن سوى حيلة مبطنة لاستدرار عطف الأجانب وتسول المعونات وتحويل مسارها الى جيوب المسؤولين في الرابوني.
وقد اصطدمت إرادة قيادة الجبهة في تكثيف رحلات المبتعثات الى الخارج للدراسة، لزيادة وتنويع مصادر دخلها مع حدوث أكبر عملية انسلاخ فكري وثقافي وأخلاقي وديني للشباب الصحراوي المهجر، بسبب غياب التوجيه والعزل عن الفضاء الاجتماعي والثقافي والديني لهاته الفئة منذ الصغر.
ويرجع السبب في التنكر للأصول الصحراوية والمرجعية الإسلامية والثقافة العربية للكثيرين من الشباب الصحراوي، في عقد اتفاق عرفي بين تنظيم البولساريو والمنظمات المساندة لها في الخارج، لجلب شباب يافعين للدراسة أو العلاج، وهو المسار الذي عادة ما ينتج عنه عملية تبني كاملة لهؤلاء من طرف عائلات أجنبية ثقافة ودينا وتربية وخلفية اجتماعية، وإعادة تشكيل وعي الأطفال الصحراويين، ليتنكروا لعائلاتهم البيولوجية ولثقافتهم ودينهم، في مخالفة صريحة لمقتضيات القانون الدولي وفي تضليل واضح للأسر الصحراوية التي عادة ما تتلقى تطمينات بحماية أطفالهم من هكذا صعوبات قد تسلب هويتهم.
إن استعراض حالات الاستيلاب الثقافي الواقع على الشباب الصحراوي المهجر من المخيمات في مرحلة الطفولة، كثيرة بحيث يصعب حصرها في مقال، وقد تم ذكرها في العديد من تقارير المنظمات الحقوقية العاملة على قضايا النساء والأطفال في شمال إفريقيا، أثناء فحص تقارير دولة الجزائر أمام اليات الأمم المتحدة التعاهدية أو بمناسبة زيارة إجراءات مجلس حقوق الإنسان الخاصة للدولة الجزائرية، غير أن الملاحظ في مثل تلك الحالات، عدم اكتراث المجتمع الدولي لهذه الانتهاكات الجسيمة، بل ويصعب التطرق إلى هذه المشكلة، لإصرار السلطات الجزائرية على إبقاء حالة حقوق الإنسان بمخيمات تندوف طي الكتمان.
ومنذ عقد من الزمن، بدأت تظهر للعلن حالات عديدة لطفلات تم تبنيها من طرف عائلات إسبانية بوساطة مسؤولين بتنظيم البوليساريو، وتضليل للأسر البيولوجية، نتجت عنها الكثير من الاثار الاجتماعية والنفسية، بحيث تعاني العائلات من صعوبة استرداد فلذات اكبادها، بعد فراق طويل، قد لا تتمكن من الالتقاء بها مجددا.
وتضطر الأسر في مجمل الحالات الى استمالة بناتها لزيارة المخيمات، بهدف احتجازها في أرض لحمادة، حيث لا تواصل أو التقاء بشخص أجنبي على الاسرة الصغيرة، طمعا في إعادة تشكيل وعيها وإعادة استنبات ثقافتها الصحراوية، بعد سنوات من التلقين والترغيب في أساليب العيش الغربي.
غير أن اللجوء إلى هذا الأسلوب لاسترداد الأبناء من التماهي مع أسلوب الحياة الغربية في إسبانيا وغيرها، يصطدم بنفور الأبناء من جو الرتابة التي تعيشه العائلات بالمخيمات وتدني سبل العيش، واختناق الامل بالتوصل الى حل سياسي لنزاع الصحراء ينهي معاناة قاطني المخيمات، إضافة الى نكوص تنظيم البوليساريو عن التزاماته اتجاه الصحراويين.
وعلى إثر ذلك تجد العائلات نفسها في مرمى النيران، لاهي استطاعت إعادة أبنائها، وقد تتابع قانونيا بموجب قوانين الدولة الحاضنة لأبنائها، ولا يمكنها التعبير عن قناعتها بخصوص النزاع بصراحة أو الجزم بنيتها في مغادرة المخيمات للبحث عن أفق أرحب، لتعلقها بعودة أبنائها يوما ما، ولذلك لا تعاني العائلات الصحراوية بالمخيمات من ظروف اللجوء القاسية والتضييق الممارس عليها وحسب، ولكنها تتعرض أيضا للابتزاز في فلذات اكبادها لأن مصير أبنائها في حوزة ممثلي البوليساريو والعائلات الحاضنة، وليس بيد أسرهم البيولوجية، حيث يستمر الصحراويون عالقين في كماشة، ليس لهم بد من مواجهة عواقب وخيمة لاتخاذهم قرار تسليم صغارهم لعصابة، بغض النظر عن ولائهم الحالي للبوليساريو من عدمه.
تناسلت أخبار بمواقع التراسل الفوري (واتساب) مطلع الأسبوع الماضي، مفادها أن شابا صحراويا يعمل ممثلا لمتجر لبيع السلع عن بعد بمدينة اليكانتي، شمال شبه الجزيرة الإيبيرية، أقدم على تهريب شابة صحراوية تدعى فيلح لعروسي، من المخيمات الى مدينة وهران الجزائرية، بغية تمكينها من العبور الى الديار الإسبانية، ليستتبع هذه الحادثة سيل من التهديدات الموجهة لهذا الشاب وعائلته بالقتل والاختطاف جزاءا لفعلته الشنيعة إذا لم يرجع الشابة المهربة الى عائلتها بالمخيمات.
وتبارت مواقع الاخبار في التحليل بشأن اعتبار الأمر اتجارا بالبشر أم حرية شخصية ما دامت فيلح لعروسي قد وصلت سن البلوغ القانوني، أم هو شأن صحراوي خاص بساكنة المخيمات، لا ينبغي لأي متلصص الخوض فيه؟
ومن مساوئ الصدف، أن حالة فيلح لعروسي ليست الوحيدة بمخيمات لحمادة، لأنها ببساطة الحالة رقم 151 على أقل تقدير، في غياب أي إحصائيات موثوقة يمكن اعتمادها، حيث تتم استعارة بنات في عمر الزهور الى عائلات اسبانية، لا تهم خلفيتها الثقافية والتزامها الأخلاقي أو جديتها في التعامل مع القضايا والتحديات المرتبطة بالإشراف على الأطفال، القادمين من سياقات ثقافية مختلفة، إضافة إلى الثقة العمياء في تنظيم عسكري مشكل من تجار بشر، لن يرف لهم جفن إذا انتهكت حرمات صحراويات قاصرات بالمهجر، لأن تلقي الدعم أهم من أرواح زكية رميت لقطط شوارع تلتهم لحمها في غياب وجود أي وازع ديني أو أخلاقي يحتم تتبع أحوال هؤلاء الضحايا، وتفريط الأسر البيولوجية وعدم طرح الأسئلة بشأن نمو أبنائها الروحي والثقافي في مراحل فاصلة من العمر.
أليس حريا بالمدافعين عن حقوق الإنسان الصحراويين أينما تواجدوا، الانتصار للم شمل أسرة أهل لعروسي والضغط لكي يحتضن الفضاء الثقافي الصحراوي فيلح لعروسي، دون التفريط في حقوقها في التعليم والعمل وحرية التنقل وفق ضوابط معلومة، أم أن (المشروع الوطني) أكبر من الأشخاص كما يردد دائما؟
إن الانتصار لمشروع تفكيك الأسر الصحراوية بالمخيمات والعمل على انسلاخها من جذورها وثقافتها المحلية الثرية، أمر تتقاسمه نزوعات مصلحية لأشخاص على رأس هرم السلطة الجزائرية، يتم تصريفها محليا من قبل مجموعة من المسؤولين النافذين في تنظيم البوليساريو، في غياب استحضار أي مصلحة لساكنة المخيمات، بل وتقوم تلك القيادة بدور الوسيط المسهل لعملية المقايضة البغيضة.
ونستحضر هنا برنامج النفط مقابل الغذاء، المطبق قسرا على العراق بعد إضعافه من قبل أمريكا وحلفائها، ليقابله استشفاء ابناء وبنات الصحراويات وتبنيهم من قبل أسر في الخارج مقابل تسول الدعم لدى جمعيات أجنبية، بدورها تبحث عن سقط متاع في ميزانيات الدول أو المنظمات الدولية المتعاطفة مع قضايا اللجوء والنزوح والهشاشة والفقر في مختلف مناطق المعمور.
وستبقى حالة فيلح لعروسي، رقما إحصائيا، ما لم تثور العائلات الصحراوية بالمخيمات على متزعمي شبكات التهجير الناعم وتقديمهم للعدالة والتعريف بقضيتهم على نطاق واسع لكي يأخذ المجتمع الدولي والقوى الحية علما بذلك، في أفق وقف نزيف الاستلاب الهوياتي للصحراويين بالمخيمات، والتركيز على النضال من أجل فرض حل سياسي ينهي معاناة الصحراويين بمنطقة تندوف، ويوقف استهتار قيادة متسلطة بحياة الالاف من الأشخاص، لا لسبب وجيه سوى لاستدامة إزعاج الجزائر للمملكة المغربية للحصول على مكاسب جيوسياسية مستحيلة، لأنها ببساطة تعشش في أحلام عاجز عن ترقية أحوال مواطنيه المسحوقين، ناهيك عن التطلع إلى المزيد.
لا يسع المجال في هذه المقالة للحديث عن جذور الصراع حول أحقية السيادة على الصحراء، ومن يعبر عن تطلعات الصحراء على ضفتي الجدار الأمني، أهو تنظيم البوليساريو أم ممثلو وشيوخ قبائل الصحراء التقليديين، الذين ما فتئت قيادة الجبهة تقدمهم للأمم المتحدة قربانا لتأكيد حقها الحصري في التمثيل، بينما تزيل عنهم أي حضور فعلي في الحياة السياسية والاجتماعية في المخيمات وفي الصحراء على حد سواء، اعتقادا من مسؤوليها أن السماح بأدنى هامش للتحرك لهاته الزعامات التقليدية، قد ينسف مشروعها.
ولد هذا التعامل المتضارب مع أهالي المخيمات الصحراوية بجنوب غربي الجزائر، من قبل الدولة الحاضنة وجهازها التنفيذي بالمخيمات، لمدة قاربت الخمسين سنة، شعورا عاما بانقطاع الامل في التوصل لأي حل مهما كان حجمه أو نتائجه، لسبب بسيط يتمثل في وقوف الصحراويين على حقيقة مفادها، أن تواجدهم على أرض لحمادة، لم يكن يوما من أجل تقرير مصير، أو مناشدة لاستقلال بعد احتلال اجنبي لأرض شعب كان مستقلا في زمن من الأزمنة الماضية منذ استخلاف الإنسان في الأرض، وإنما نزوع لقضم أراض صحراوية من طرف السلطات الجزائرية بواسطة اللجوء الى خدمات تنظيم عسكري، في حل من أي التزام قانوني أو أخلاقي دولي، لإبعاد شبهة العدوان على بلد جار.
وقد ساهم هذا التحالف الهجين بين نظام يدعي الطهارة الثورية ومساعدة المستضعفين، وتنظيم عسكري توتاليتاري، شكل الصحراويون أول ضحاياه، في تسميم الشعور العام بالانتماء للفضاء الصحراوي لدى الكثير من قاطني المخيمات، وعملت الدولة الحاضنة ومعاونيها بقيادة البوليساريو على صناعة طابوهات وتمثلات جديدة لتلقين أجيال الصحراويين الناشئة، لقطع صلاتها بالأرض والثقافة والارتباط الهوياتي، فمن لم يزهو تفاخرا بعظمة الجزائر وقوتها وكرمها الحاتمي في التكفل وحماية اللاجئين، يوصف بالخيانة للمشروع الوطني وللقضية برمتها، كما أن فئات عريضة من الصحراويين بالمخيمات يرون أن إسبانيا دولة خلاص لا محالة لردم الفقر والمعاناة، وهو لعمري شعور بئيس بالحنين الى مستعمر دخل الصحراء غازيا وتركها وأهلها دون وضع لبنة نمو أو تطور واحدة، إلا بمقدار تعزيز وجوده العسكري والانتفاع من خيرات المنطقة.
إن عدم الإنصات لتطلعات الناس بالمخيمات والاستجابة السريعة لحاجياتهم الإنسانية وضمان أمنهم وحقوقهم المكفولة بموجب الاتفاقيات الدولية الناظمة لحقوق الإنسان، خلف حالة شديدة من الإحساس بالغبن والامتعاض من سياسات البوليساريو والحليف على حد سواء، لكن لا أحد كان يستطيع الجهر برأيه فيما تتعرض له الأسر الصحراوية بالمخيمات، لما واجههم من موجات الشحن الإيديولوجي اتجاه من يخالف توجهات تنظيم البوليساريو والدولة الحاضنة للمخيمات.
ليس من قبيل إفشاء السر، أن فئات عريضة من الصحراويين المتواجدين بالمخيمات، تقاسي الأمرين في علاقة بتدني ظروف عيشهم والسياقات المحيطة بأماكن سكناهم، وانعدام التمتع بالحقوق الواردة باتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين.
فالنساء والطفلات في مختلف نقط إقامة الصحراويين في صحراء لحمادة، تتحمل الجزء الأكبر من المعاناة داخل المخيمات وخارجها، بالرغم مما يتم التسويق له، بخصوص ما تحظى به المرأة من مكانة وسط المخيمات، وهو ما لا يتسق مع ما ارتكبه البوليساريو من جرائم تهجير قسري لطفلات قاصرات الى أمريكا اللاتينية وإسبانيا ومناطق أخرى لمدد طويلة، تجاوزت في أدناها العشر سنوات، بهدف الدراسة والتحصيل، غير أن تلك الأهداف المعلنة، لم تكن سوى حيلة مبطنة لاستدرار عطف الأجانب وتسول المعونات وتحويل مسارها الى جيوب المسؤولين في الرابوني.
وقد اصطدمت إرادة قيادة الجبهة في تكثيف رحلات المبتعثات الى الخارج للدراسة، لزيادة وتنويع مصادر دخلها مع حدوث أكبر عملية انسلاخ فكري وثقافي وأخلاقي وديني للشباب الصحراوي المهجر، بسبب غياب التوجيه والعزل عن الفضاء الاجتماعي والثقافي والديني لهاته الفئة منذ الصغر.
ويرجع السبب في التنكر للأصول الصحراوية والمرجعية الإسلامية والثقافة العربية للكثيرين من الشباب الصحراوي، في عقد اتفاق عرفي بين تنظيم البولساريو والمنظمات المساندة لها في الخارج، لجلب شباب يافعين للدراسة أو العلاج، وهو المسار الذي عادة ما ينتج عنه عملية تبني كاملة لهؤلاء من طرف عائلات أجنبية ثقافة ودينا وتربية وخلفية اجتماعية، وإعادة تشكيل وعي الأطفال الصحراويين، ليتنكروا لعائلاتهم البيولوجية ولثقافتهم ودينهم، في مخالفة صريحة لمقتضيات القانون الدولي وفي تضليل واضح للأسر الصحراوية التي عادة ما تتلقى تطمينات بحماية أطفالهم من هكذا صعوبات قد تسلب هويتهم.
إن استعراض حالات الاستيلاب الثقافي الواقع على الشباب الصحراوي المهجر من المخيمات في مرحلة الطفولة، كثيرة بحيث يصعب حصرها في مقال، وقد تم ذكرها في العديد من تقارير المنظمات الحقوقية العاملة على قضايا النساء والأطفال في شمال إفريقيا، أثناء فحص تقارير دولة الجزائر أمام اليات الأمم المتحدة التعاهدية أو بمناسبة زيارة إجراءات مجلس حقوق الإنسان الخاصة للدولة الجزائرية، غير أن الملاحظ في مثل تلك الحالات، عدم اكتراث المجتمع الدولي لهذه الانتهاكات الجسيمة، بل ويصعب التطرق إلى هذه المشكلة، لإصرار السلطات الجزائرية على إبقاء حالة حقوق الإنسان بمخيمات تندوف طي الكتمان.
ومنذ عقد من الزمن، بدأت تظهر للعلن حالات عديدة لطفلات تم تبنيها من طرف عائلات إسبانية بوساطة مسؤولين بتنظيم البوليساريو، وتضليل للأسر البيولوجية، نتجت عنها الكثير من الاثار الاجتماعية والنفسية، بحيث تعاني العائلات من صعوبة استرداد فلذات اكبادها، بعد فراق طويل، قد لا تتمكن من الالتقاء بها مجددا.
وتضطر الأسر في مجمل الحالات الى استمالة بناتها لزيارة المخيمات، بهدف احتجازها في أرض لحمادة، حيث لا تواصل أو التقاء بشخص أجنبي على الاسرة الصغيرة، طمعا في إعادة تشكيل وعيها وإعادة استنبات ثقافتها الصحراوية، بعد سنوات من التلقين والترغيب في أساليب العيش الغربي.
غير أن اللجوء إلى هذا الأسلوب لاسترداد الأبناء من التماهي مع أسلوب الحياة الغربية في إسبانيا وغيرها، يصطدم بنفور الأبناء من جو الرتابة التي تعيشه العائلات بالمخيمات وتدني سبل العيش، واختناق الامل بالتوصل الى حل سياسي لنزاع الصحراء ينهي معاناة قاطني المخيمات، إضافة الى نكوص تنظيم البوليساريو عن التزاماته اتجاه الصحراويين.
وعلى إثر ذلك تجد العائلات نفسها في مرمى النيران، لاهي استطاعت إعادة أبنائها، وقد تتابع قانونيا بموجب قوانين الدولة الحاضنة لأبنائها، ولا يمكنها التعبير عن قناعتها بخصوص النزاع بصراحة أو الجزم بنيتها في مغادرة المخيمات للبحث عن أفق أرحب، لتعلقها بعودة أبنائها يوما ما، ولذلك لا تعاني العائلات الصحراوية بالمخيمات من ظروف اللجوء القاسية والتضييق الممارس عليها وحسب، ولكنها تتعرض أيضا للابتزاز في فلذات اكبادها لأن مصير أبنائها في حوزة ممثلي البوليساريو والعائلات الحاضنة، وليس بيد أسرهم البيولوجية، حيث يستمر الصحراويون عالقين في كماشة، ليس لهم بد من مواجهة عواقب وخيمة لاتخاذهم قرار تسليم صغارهم لعصابة، بغض النظر عن ولائهم الحالي للبوليساريو من عدمه.
تناسلت أخبار بمواقع التراسل الفوري (واتساب) مطلع الأسبوع الماضي، مفادها أن شابا صحراويا يعمل ممثلا لمتجر لبيع السلع عن بعد بمدينة اليكانتي، شمال شبه الجزيرة الإيبيرية، أقدم على تهريب شابة صحراوية تدعى فيلح لعروسي، من المخيمات الى مدينة وهران الجزائرية، بغية تمكينها من العبور الى الديار الإسبانية، ليستتبع هذه الحادثة سيل من التهديدات الموجهة لهذا الشاب وعائلته بالقتل والاختطاف جزاءا لفعلته الشنيعة إذا لم يرجع الشابة المهربة الى عائلتها بالمخيمات.
وتبارت مواقع الاخبار في التحليل بشأن اعتبار الأمر اتجارا بالبشر أم حرية شخصية ما دامت فيلح لعروسي قد وصلت سن البلوغ القانوني، أم هو شأن صحراوي خاص بساكنة المخيمات، لا ينبغي لأي متلصص الخوض فيه؟
ومن مساوئ الصدف، أن حالة فيلح لعروسي ليست الوحيدة بمخيمات لحمادة، لأنها ببساطة الحالة رقم 151 على أقل تقدير، في غياب أي إحصائيات موثوقة يمكن اعتمادها، حيث تتم استعارة بنات في عمر الزهور الى عائلات اسبانية، لا تهم خلفيتها الثقافية والتزامها الأخلاقي أو جديتها في التعامل مع القضايا والتحديات المرتبطة بالإشراف على الأطفال، القادمين من سياقات ثقافية مختلفة، إضافة إلى الثقة العمياء في تنظيم عسكري مشكل من تجار بشر، لن يرف لهم جفن إذا انتهكت حرمات صحراويات قاصرات بالمهجر، لأن تلقي الدعم أهم من أرواح زكية رميت لقطط شوارع تلتهم لحمها في غياب وجود أي وازع ديني أو أخلاقي يحتم تتبع أحوال هؤلاء الضحايا، وتفريط الأسر البيولوجية وعدم طرح الأسئلة بشأن نمو أبنائها الروحي والثقافي في مراحل فاصلة من العمر.
أليس حريا بالمدافعين عن حقوق الإنسان الصحراويين أينما تواجدوا، الانتصار للم شمل أسرة أهل لعروسي والضغط لكي يحتضن الفضاء الثقافي الصحراوي فيلح لعروسي، دون التفريط في حقوقها في التعليم والعمل وحرية التنقل وفق ضوابط معلومة، أم أن (المشروع الوطني) أكبر من الأشخاص كما يردد دائما؟
إن الانتصار لمشروع تفكيك الأسر الصحراوية بالمخيمات والعمل على انسلاخها من جذورها وثقافتها المحلية الثرية، أمر تتقاسمه نزوعات مصلحية لأشخاص على رأس هرم السلطة الجزائرية، يتم تصريفها محليا من قبل مجموعة من المسؤولين النافذين في تنظيم البوليساريو، في غياب استحضار أي مصلحة لساكنة المخيمات، بل وتقوم تلك القيادة بدور الوسيط المسهل لعملية المقايضة البغيضة.
ونستحضر هنا برنامج النفط مقابل الغذاء، المطبق قسرا على العراق بعد إضعافه من قبل أمريكا وحلفائها، ليقابله استشفاء ابناء وبنات الصحراويات وتبنيهم من قبل أسر في الخارج مقابل تسول الدعم لدى جمعيات أجنبية، بدورها تبحث عن سقط متاع في ميزانيات الدول أو المنظمات الدولية المتعاطفة مع قضايا اللجوء والنزوح والهشاشة والفقر في مختلف مناطق المعمور.
وستبقى حالة فيلح لعروسي، رقما إحصائيا، ما لم تثور العائلات الصحراوية بالمخيمات على متزعمي شبكات التهجير الناعم وتقديمهم للعدالة والتعريف بقضيتهم على نطاق واسع لكي يأخذ المجتمع الدولي والقوى الحية علما بذلك، في أفق وقف نزيف الاستلاب الهوياتي للصحراويين بالمخيمات، والتركيز على النضال من أجل فرض حل سياسي ينهي معاناة الصحراويين بمنطقة تندوف، ويوقف استهتار قيادة متسلطة بحياة الالاف من الأشخاص، لا لسبب وجيه سوى لاستدامة إزعاج الجزائر للمملكة المغربية للحصول على مكاسب جيوسياسية مستحيلة، لأنها ببساطة تعشش في أحلام عاجز عن ترقية أحوال مواطنيه المسحوقين، ناهيك عن التطلع إلى المزيد.