كنتُ سأموت، فلم يخبرني أحد أن محاولة الاقتراب من الحجر الأسود، مغامرة خطرة. قالت لي خالتي وهي توضح لي مناسك العمرة أن الاقتراب من الكعبة ومن الحجر الأسود يكون صعبا بسبب التدافع لكني لم أستوعب الأمر إلا عندما حدث ما حدث وكنت دائما لا أفهم كيف يموت الناس في الحج!؟
في اليوم الأول الذي دخلت فيه الحرم المكي -ودون خبرة كافية- ومع بداية الطواف بدأت أقترب من الكعبة، كنت منبهرة ومتأثرة، فقد تحقق أخيرا حلم حملته معي لسنوات ولم يتحقق إلا بعد التغيير الذي تشهده المملكة العربية السعودية والذي سمح للسيدات تحت سن الأربعين بالعمرة دون محرم.
سرت بحماسة نحو الكعبة وشيئا فشيئا كنت على بعد خطوة منها، اقتربت أكثر حتى لمستها وامتلأت بالثقة.
كنت محملة بدعوات ثقيلة من العائلة والأصدقاء والزملاء، قالوا لي إن الدعاء أمانة ورغبت في وضع يدي على الكعبة وترديد تلك الدعوات كلها. حافظت على مكاني بمحاذاة الكعبة حتى وصلت إلى موقع مزدحم، سألت الناس: "هل هذا هو الحجر الأسود؟" "لا" أجاب أحدهم "هذا اسمه الركن اليمني" لمسته أيضا بل والتقطت صورا لي بجانبه، وازدادت ثقتي بالوصول إلى الحجر الأسود لكن مع تقدم خطواتي البطيئة بدأت أشعر بتضاعف الزحام، ثم بدا لي أن الناس شكلوا جبلا أمام الحجر، الذي ظهر لي من بعيد، فتذكرته لأنه كان ضمن مشهد يومي في افتتاح الإرسال في التلفزيون المغربي، عندما يظهر الملك وهو يقبله في أحد مشاهد النشيد الوطني.
بدأ الزحام يشتد والحرارة عالية، ولست معتادة على أغطية الرأس، صرت ملتصقة بالكعبة إلى درجة أني أصبحت أقف على رجلي اليمنى فقط واليسرى التصقت بالكعبة من فرط الدفع، بدأت أشعر ببعض الخوف، ثم قال لي معتمر يبدو باكستانيا بلغة انجليزية، كان ورائي: "لا تخافي! تقدمي لن يمسك سوء ولن أدع أحدا يقترب منك أو يدفعك." وكنت كلما وقفت أسمعه يقول "غو أهيد..دونت ووري!" فأتقدم.
لكن ما إن لمست إطار الحجر الأسود الحديدي حتى شعرت بموجة بشرية تأخذني معها، وشعرت كأني قطعة كيري داخل ساندويتش و أن أحدهم يفعصني، لم يعد الرجل الباكستاني ورائي وبدأت أنفاسي تتضاءل…لكن الموجة البشرية أخذتني أمام الحجر الأسود، لم ألمسه فقط بل صار رأسي كله بداخله، الناس تحاول لمس الحجر، وأنا أتأمله عن قرب وبدا لي أنه ليس أسود تماما وغير متجانس بحيث رأيت تنويعات للون الأسود، تأملته ثم أخرجت رأسي وأردت إفساح المجال للآخرين لكن كان ذلك مستحيلا وسط رغبة الجميع في لمس الحجر وأخذ مكاني.
طلبت أن يفسحوا لي الطريق لكن التدافع اشتد، صرخت واستنجدت بمن حولي، لا أحد يراني، لا أحد يسمعني، الناس تبكي وتصرخ وتتدافع وأنا لم أعد أتنفس، وضغطي الدموي ينزل شيئا فشيئا، كان الشعور نفسه الذي شعرت به في غرفة العمليات أثناء العملية القيصرية عندما قلتُ للطبيبة: " إني أرحل " حتى لا أقول إني أموت فسارعوا إلى حقني بما يرفع ضغطي الدموي وإعادتي إلى وعيي… في تلك اللحظة أمام الحجر قلت لنفسي "إني أرحل "ولم أعد أرى سوى الضباب وخارت قوتي، نطقت الشهادتين واستسلمت لفكرة الموت أمام الكعبة وقلت بتفكير قدري إيماني إنه موت جميل أن أموت هنا في مكة أمام الكعبة.
كنت أضع غطائين على رأسي، واحد جاهز يلبس كقطعة واحدة والآخر كبير أضعه على طريقة بينازير بوتو دون دبابيس أو إبر، وبسبب التدافع يبدو أن غطاء رأسي الكبير التوى على ذراع شاب، لا أذكر لهجته الآن لأني لم أكن في وعيٍ كامل، فصار الشال يربطنا ببعض، جزء حول عنقي وجزء حول ذراعه، هو ما جعله يلتفت نحوي ويلتقطني وأنا أسقط، بالكاد كنت أتبين ملامح وجهه وهو يخرجني من الزحام، وبدأ يفك الشال عن ذراعه، قلت له :"سامحني يا أخي!" فابتسم وأنا أغمضت عيني.
للآن لا أعرف إن كان حقا رجلا أم ملاكا!
في صحن الكعبة وبعيدا عن الزحام جلست على البلاط وكنت لا أقوى بعد على الوقوف، شعرت بضعف شديد وكنت خفيفة كورقة شجرة وكأني صرت فارغة من الداخل… بدأت تدريجيا أستوعب ما حدث وأستعيد بعضا من قوتي. اتصلت بخالتي التي كانت تصاحبني في كل خطوة من العمرة وحكيت لها ما وقع، قالت لي "يا ابنتي هناك أناس اعتمروا عشرين مرة ولم يلمسوا الحجر الأسود وأنت من أول مرة، ومن أول يوم أدخلت رأسك فيه! إنها لكرامة من الله الذي يعرف قلبك !"
فبكيت!
في الأيام التالية لم أعد أجرؤ على الاقتراب من الكعبة، أطوف من بعيد فقط وأرفع يدي تحية للحجر الأسود لكني وجدت نفسي في العمرة الثانية أخطو إليها، عندما ناداني قائد المجموعة: "تعالي المسي الكعبة يا حجة!" اقتربت ولمستها مرة أخرى وساعدت أخريات على لمسها.
وفي اليوم الأخير وفي طواف الوداع اقتربت، وضعت رأسي عليها واستسلمت للمناجاة والدعاء، لم أشعر حينها بالعالم ولا بتدافع ولا بالزحام، بقيت هكذا لدقائق وكأني في عالم آخر.
في اليوم الأول الذي دخلت فيه الحرم المكي -ودون خبرة كافية- ومع بداية الطواف بدأت أقترب من الكعبة، كنت منبهرة ومتأثرة، فقد تحقق أخيرا حلم حملته معي لسنوات ولم يتحقق إلا بعد التغيير الذي تشهده المملكة العربية السعودية والذي سمح للسيدات تحت سن الأربعين بالعمرة دون محرم.
سرت بحماسة نحو الكعبة وشيئا فشيئا كنت على بعد خطوة منها، اقتربت أكثر حتى لمستها وامتلأت بالثقة.
كنت محملة بدعوات ثقيلة من العائلة والأصدقاء والزملاء، قالوا لي إن الدعاء أمانة ورغبت في وضع يدي على الكعبة وترديد تلك الدعوات كلها. حافظت على مكاني بمحاذاة الكعبة حتى وصلت إلى موقع مزدحم، سألت الناس: "هل هذا هو الحجر الأسود؟" "لا" أجاب أحدهم "هذا اسمه الركن اليمني" لمسته أيضا بل والتقطت صورا لي بجانبه، وازدادت ثقتي بالوصول إلى الحجر الأسود لكن مع تقدم خطواتي البطيئة بدأت أشعر بتضاعف الزحام، ثم بدا لي أن الناس شكلوا جبلا أمام الحجر، الذي ظهر لي من بعيد، فتذكرته لأنه كان ضمن مشهد يومي في افتتاح الإرسال في التلفزيون المغربي، عندما يظهر الملك وهو يقبله في أحد مشاهد النشيد الوطني.
بدأ الزحام يشتد والحرارة عالية، ولست معتادة على أغطية الرأس، صرت ملتصقة بالكعبة إلى درجة أني أصبحت أقف على رجلي اليمنى فقط واليسرى التصقت بالكعبة من فرط الدفع، بدأت أشعر ببعض الخوف، ثم قال لي معتمر يبدو باكستانيا بلغة انجليزية، كان ورائي: "لا تخافي! تقدمي لن يمسك سوء ولن أدع أحدا يقترب منك أو يدفعك." وكنت كلما وقفت أسمعه يقول "غو أهيد..دونت ووري!" فأتقدم.
لكن ما إن لمست إطار الحجر الأسود الحديدي حتى شعرت بموجة بشرية تأخذني معها، وشعرت كأني قطعة كيري داخل ساندويتش و أن أحدهم يفعصني، لم يعد الرجل الباكستاني ورائي وبدأت أنفاسي تتضاءل…لكن الموجة البشرية أخذتني أمام الحجر الأسود، لم ألمسه فقط بل صار رأسي كله بداخله، الناس تحاول لمس الحجر، وأنا أتأمله عن قرب وبدا لي أنه ليس أسود تماما وغير متجانس بحيث رأيت تنويعات للون الأسود، تأملته ثم أخرجت رأسي وأردت إفساح المجال للآخرين لكن كان ذلك مستحيلا وسط رغبة الجميع في لمس الحجر وأخذ مكاني.
طلبت أن يفسحوا لي الطريق لكن التدافع اشتد، صرخت واستنجدت بمن حولي، لا أحد يراني، لا أحد يسمعني، الناس تبكي وتصرخ وتتدافع وأنا لم أعد أتنفس، وضغطي الدموي ينزل شيئا فشيئا، كان الشعور نفسه الذي شعرت به في غرفة العمليات أثناء العملية القيصرية عندما قلتُ للطبيبة: " إني أرحل " حتى لا أقول إني أموت فسارعوا إلى حقني بما يرفع ضغطي الدموي وإعادتي إلى وعيي… في تلك اللحظة أمام الحجر قلت لنفسي "إني أرحل "ولم أعد أرى سوى الضباب وخارت قوتي، نطقت الشهادتين واستسلمت لفكرة الموت أمام الكعبة وقلت بتفكير قدري إيماني إنه موت جميل أن أموت هنا في مكة أمام الكعبة.
كنت أضع غطائين على رأسي، واحد جاهز يلبس كقطعة واحدة والآخر كبير أضعه على طريقة بينازير بوتو دون دبابيس أو إبر، وبسبب التدافع يبدو أن غطاء رأسي الكبير التوى على ذراع شاب، لا أذكر لهجته الآن لأني لم أكن في وعيٍ كامل، فصار الشال يربطنا ببعض، جزء حول عنقي وجزء حول ذراعه، هو ما جعله يلتفت نحوي ويلتقطني وأنا أسقط، بالكاد كنت أتبين ملامح وجهه وهو يخرجني من الزحام، وبدأ يفك الشال عن ذراعه، قلت له :"سامحني يا أخي!" فابتسم وأنا أغمضت عيني.
للآن لا أعرف إن كان حقا رجلا أم ملاكا!
في صحن الكعبة وبعيدا عن الزحام جلست على البلاط وكنت لا أقوى بعد على الوقوف، شعرت بضعف شديد وكنت خفيفة كورقة شجرة وكأني صرت فارغة من الداخل… بدأت تدريجيا أستوعب ما حدث وأستعيد بعضا من قوتي. اتصلت بخالتي التي كانت تصاحبني في كل خطوة من العمرة وحكيت لها ما وقع، قالت لي "يا ابنتي هناك أناس اعتمروا عشرين مرة ولم يلمسوا الحجر الأسود وأنت من أول مرة، ومن أول يوم أدخلت رأسك فيه! إنها لكرامة من الله الذي يعرف قلبك !"
فبكيت!
في الأيام التالية لم أعد أجرؤ على الاقتراب من الكعبة، أطوف من بعيد فقط وأرفع يدي تحية للحجر الأسود لكني وجدت نفسي في العمرة الثانية أخطو إليها، عندما ناداني قائد المجموعة: "تعالي المسي الكعبة يا حجة!" اقتربت ولمستها مرة أخرى وساعدت أخريات على لمسها.
وفي اليوم الأخير وفي طواف الوداع اقتربت، وضعت رأسي عليها واستسلمت للمناجاة والدعاء، لم أشعر حينها بالعالم ولا بتدافع ولا بالزحام، بقيت هكذا لدقائق وكأني في عالم آخر.
ريم نجمي/ صحافية