ألقى المؤرخ والأستاذ الطيب بياض بالمكتبة الجامعية محمد السقاط بمدينة الدار البيضاء، درسا افتتاحيا حول "تشكل الشخصية المغربية"، وهو الموضوع الذي قال إنه شغله طوال خمس سنوات، أي منذ أن قُدر له الرحيل إلى الصين سنة 2018، حيث شكلت له تلك الرحلة نوعا من الصدمة مع الحضارة الصينية أكثر منها مع الحضارة الغربية، بسبب طرحه سؤال عن تلك الطفرة التي عرفتها الصين. وكان السؤال يتجاوز ما هو تقني، وما هو ظرفي ومرحلي، حول المغرب وشعبه وحضارته ولحظة تشكله وأطوار هذا التشكل ومراحل تطوره.. كل ذلك من أجل الإمساك بالهابيتوس المشكل للشخصية المغربية.
انتقل الطيب بياض إلى فترة قدوم الإسلام، حيث طرح السؤال التالي: كيف سيكون هذا التفاعل مع هذا القدوم؟ ما هو الرصيد السابق؟.
فبالنسبة لـ "دانييل ريفي" يعتبر أن المسيحية التي كانت في شمال إفريقيا مهدت لاعتناق الإسلام، لكنه نبه إلى أن الإسلام الأصلي تم تكييفه مع الظروف المحلية، ويضيف بشأن العلاقة مع الشرق: "أن البربر اعتنقوا الديانة الجديدة دون القبول بأن يصبحوا عبيدا مملوكين لمن أتى بها". لذلك يعتبر عبد الله العروي أواسط القرن الثامن ميلادي منعطفا نوعيا في تاريخ المغرب، إذ رأى في انتشار الدعوة الخارجية في ربوعه تحررا من التبعية من المشرق وأخذا لزمام المبادرة"، حسب تحليل المحاضر.
فبالنسبة لـ "دانييل ريفي" يعتبر أن المسيحية التي كانت في شمال إفريقيا مهدت لاعتناق الإسلام، لكنه نبه إلى أن الإسلام الأصلي تم تكييفه مع الظروف المحلية، ويضيف بشأن العلاقة مع الشرق: "أن البربر اعتنقوا الديانة الجديدة دون القبول بأن يصبحوا عبيدا مملوكين لمن أتى بها". لذلك يعتبر عبد الله العروي أواسط القرن الثامن ميلادي منعطفا نوعيا في تاريخ المغرب، إذ رأى في انتشار الدعوة الخارجية في ربوعه تحررا من التبعية من المشرق وأخذا لزمام المبادرة"، حسب تحليل المحاضر.
وطرح المتحدث نفسه سؤالا مضمونه: هل يعتبر ما حصل في القرن الثامن الميلادي قطيعة في مسار بناء هذه النفسانية المغربية بلغة العروي؟ أم مجرد تحول يُفهم في سياق اختيار أهل هذه "الجزيرة" الواقعة في أقصى الغرب، والتي لا تلبث أن تعود إلى مقوماتها المحلية بعد كل انفتاح فطري (فنيقي) أوقهري (روماني)؟.
يستشكل المحاضر الموضوع أكثر، في العلاقة مع مقاربته المنهجية، بالقول: "إذا كان هذا الانفتاح الذي تحدثنا عنه قد حصل، ما هي القيمة المضافة التي أضافها بالنسبة لما أسميناه "الهابيتوس" الذي سيكون فاعلا في الشخصية المغربية؟ حيث تناول بالدرس والتحليل في هذا السياق المحطات التالية:
المحطة الأولى: هو البحث عن نوع من الاستقلالية عن الخلافة في المشرق. حيث سيتم هذا التمرين بشكل فيه الكثير من لحظات المرونة ولكن فيه لحظات من النشاز، ويكفي أن نقف عند الألقاب (أمير المؤمنين / أمير المسلمين) و لمن؟ وهناك نص قوي عند الناصري في الاستقصا يرسم صورة ندية ما بين صلاح الدين الأيوبي ويعقوب المنصور الموحدي. في غاية الأهمية.
المحطة الثانية: الانتقال من زمن الإمارات الصغرى إلى الإمبراطوريات الكبرى. وهناك عبارة جميلة للمؤرخ إبراهيم بوطالب يقول فيها: "كان الغرب الإسلامي من سرقسطة إلى نهر النيجر، ومن سوس إلى سوسة تحت حكم تلك العاصمة زمن الدولة الموحدية".
المحطة الثالثة: من بين العناوين السريعة التي قدمها المحاضر في درسه الافتتاحي تتعلق بتأمل نظرية العصبية والدولة عند ابن خلدون، حيث تبتدئ القبيلة في التشكل بنموذج "الدولة" وتتحول إلى امبراطورية، مثل ما وقع مع المرابطين، لذلك وجب الانتباه إلى هذه المسألة في بناء الشخصية المغربية، عندما تضعف شوكة هذه القبيلة وتنهار الإمبراطورية هل تنهار الدولة؟ حيث أجاب بالنفي، "لا يزيد الأمر على أن تنتقل الزعامة من قبيلة إلى أخرى، حيث تقوت الإمبراطورية مع الموحدين، وهذه المسألة في غاية الأهمية".
المحطة الرابعة: كان على هذا الكيان أو هذا الوجود أو هذه الهيئة كما يسميها جيرمان عياش، أن تتولى مهمة الدفاع عن دار الإسلام في الضفة الغربية للبحر الأبيض المتوسط، في زمن كان فيه العالم مشكلا في بنائها الذهني بمنطق ثنائي (دار الكفر و دار الإسلام و بلاد المسلمين وبلاد النصارى...).
المهم بالنسبة للمحاضر هو الفترة الفارقة في تاريخ المغرب، ففي الوقت الذي كانت الذات المغربية تقوم بمهمة الدفاع عن دار الإسلام ليس من موقع القوة فحسب، بل في لحظات الضعف أيضا (مع الوطاسيين). وفي زمن انتفت فيه القبيلة القوية التي يمكن أن تقوم بهذا المشروع. في لحظة ضعف ضد هجوم شرس للإيبيريين، (القرن 15 و 16)، في هذه اللحظة كان على الذات أن تنطلق، وتخرج القبائل مجتمعة ملتحمة، وينتصب سؤال حول المشروع: هل هو سياسي أم مشروع ديني في عملية رد الفعل.
لذلك يخلص المؤرخ المحاضر بأنه يتحدث هنا عن لحظة فارقة، لأنه لحظة رد الفعل في التعاطي مع الموضوع تموجت الفكرة ما بين المشروع الديني وما بين الدفاع عن ثغور معينة، ومن رحمها ستتشكل ما يمكن أن نسميه بخميرة الوطن تدريجا.
المحطة الخامسة: بالعودة إلى الباحث الأمريكي بويد شيفر الذي صدر له كتاب تحت عنوان "الوطنية بين الأسطورة والحقيقة"، ينبهنا إلى مسألة في غاية من الأهمية وهو التمييز ما بين الوطنية وما بين إرهاصاتها الأولى، (كيف تشكلت الإرهاصات الأولى للوطنية؟). وبالرجوع إلى تاريخنا تتضح معالم هذه المرحلة الموسومة بالإرهاصات الأولى للوطنية المغربية، على اعتبار أن الأمر يتعلق بتحدي رد الآخر.
المحطة السادسة: استحضر بصددها المحاضر حديث المؤرخ عبد الله العروي عن الوطنية المغربية، ذلك أنه ينظر إليها انطلاقا من ارتباطها بثلاثة أمور، أولا بالمخزن، علماء موالين للمخزن، بقوالب تعبيرية وألفاظ مستعملة من طرف هذه الفئة. ويتحدث العروي عن تشكلها في هذا الزمن السيروري. فعندما نعود إلى هذا الوعاء الذي تحدث عنه عبد الله العروي "المخزن" يشير المحاضر إلى أنه تشكل في بناء سيروري تشكلت مجموعة عناصره فيما يتعلق بإمارة المؤمنين والإمامة والخلافة...إلخ. كذلك تحدث عن مفهوم الشّرف سيحضر بشكل مركزي جدا.
المحطة السابعة: من بين العناوين التي أشار إليها المؤرخ بياض ما يتعلق بهذه الشخصية في علاقتها مع المجال، حيث أحال الحضور على نص الباحث إبراهيم بوطالب الذي اعتبره نصا قويا جدا حيث يقول فيه: "إن التفاوت بين من نشأ في مجال محصور ضيق ومن نشأ على العكس وهو يعلم أن الأرض الموكولة به واسعة، وأنه إن ضاق الأمر به في سوس، فما عليه إلا أن ينتقل إلى الهبط وإن ضاقت به عيون سيدي ملوك فما عليه إلا بعيون الساقية الحمراء في الصحراء الساحلية. ولعل هذه الظاهرة هي التي تجعل المغربي إنسانا متحركا بالسليقة" لهذا أفهم جيدا لماذا ابن بطوطة مغربي، والأزموري الذي رحل لأمريكا مغربي، ولماذا أبو القاسم الحجري مغربي، أفهم لماذا الإنسان المغربي رحالة في بناء الشخصية المغربية، يحلل الأستاذ المحاضر.
وأكد على أن المغربي تحرك في الخارج، وفي الداخل أيضا وساهم في الاندماج والانصهار في الزمن، حيث تحركت القبائل عموما، وحملت معها الاحتكاك بمختلف التعابير والرموز والثقافات. وطرح سؤالا جميلا، يتعلق بكيفية تغلب المغاربة على أزمة المعاش؟ ليخلص بأن القيم تأسست على هذا الطرح وأضحت من السلوك اليومي لمواجهة الأزمات.
المحطة الأخيرة: لها أهميتها البالغة (حسب المحاضر)، وتتحدد انطلاقا من السؤال التالي: لماذا نتوفر على ثقافة شفوية أكثر من الثقافة المكتوبة؟
في هذا السياق الطيب بياض كتابات إبراهيم بوطالب الذي ربط الأمر بتأخر المطبعة ونبه إلى سؤال: ماذا كان يكتبون؟ وأجاب بقوله: "كتابة النوازل والفتاوى"، لذلك فصدمة الحداثة طرحت إشكالا.
فيما يخص المحور الأخير للدرس الافتتاحي المخصص لعصر الثنائيات، أكد الأستاذ بياض بأنه لا يقصد بها ثنائية الشرع والعرف أو المخزن والسيبة أو الجبل والسهل. حيث طرح السؤال مع الآخر، مع عصر الإمبرياليات والتي أعطتنا مجموعة من الثنائيات التي ستبصم هذه الشخصية ببصمتها الخاصة، وتتحدد انطلاقا من:
المسألة الأولى: التمييز بين الكيانات القطرية)، إذ أصبح المجال محصورا بلغة الخرائط.
المسألة الثانية: المغرب كان منفلتا من قبضة آل عثمان.
المسألة الثالثة: المغرب عرف ظاهرة الهجرة من مجال إلى آخر.
من داخل هذا الواقع، يقول المحاضر، ظهرت ثنائية تتعلق بالتقليد والحداثة في العلاقة مع الآخر الأجنبي. وفي مواجهة هذا الواقع الجديد سينقسم أهل الحل والعقد، بين من يربط الأمر بفساد الزمان وأهله ويدعو للعودة إلى الأصول، وبين من لا يمانع في أخذ أسباب التقدم من الآحر.
وفي قراءة المشروعين معا، وإن اختلفا في الطرح، فإنهما يلتقيان في تشخيص الوضعية واعتبارها معطى تقنيا وليس بنيويا شاملا.
هناك مسألة أخرى في هذه الثنائية وهي كيف فهم المغربي، بخصوص مجال التشريع، دخول هذا المتغير، بين الشرعي والوضعي، لأنه من المفروض عليك في وضعيات معينة (النظام القضائي والنظام الجمركي والنظام الجبائي...) أن تدبر الوضعية المستجدة، لأن الآخر صار حاضرا إلى جانبك، وعليك أن تبتكر وضعيات لتدبير حضوره "المزعج" معك.
وأعطى مثالا آخر في علاقة الثنائيات في تشريعاتنا حيث دخلنا للكوني والمحلي، ومثال على ذلك مطروح علينا اليوم إذ كيف يمكن، حسب بياض، أن نكيّف تراثنا لكي "يشتبك" بشكل إيجابي منتج مع المواثيق الدولية في مختلف القضايا.
في نفس السياق، لم يفت المحاضر أن يستحضر قضية المرأة المغربية (النقاش حول مدونة الأسرة). فمع كل هذا الرصيد لا يمكن معه أن نقفز على واقع لا يرتفع، أردنا أم أبينا. فحين نتحدث عن مولاي إدريس فإنه مقترن بشخصية كنزة الأَوْربية، ولما نتحدث عن يوسف بن تاشفين فإنه مقترن بزينب النفزاوية، وحين نتحدث عن مسجد القرويين فإننا نتحدث عن فاطمة الفهرية، وحين نتحدث عن المقاومة فلا يمكن أن تقفز عن الكاهنة أو السيدة الحرة، ويضيف بياض، "لا يمكن لك إلا أن تقرأ ثورية الشاوي كوجه آخر لعملة النبوغ المغربي كما خطها عبد الله كنون".
وأوضح بأن هناك متغيرات في وقتنا الراهن، فيها الدولي والمحلي ويُطلب منا أن نجد صيغة معينة لكل القضايا، حيث وجدنا حلا لجل التعقيدات من قلب هذا الرصيد الحضاري. إذ وجدت الذات صوت الضمير الذي همس لها موجها للتوفيق بين الطرحين".
أما على مستوى إصلاح الأعطاب، فمنذ الهزيمة في إيسلي يتردد سؤال كيف نصلح وبما نصلح؟ حيث تحضر الثنائيات بشكل كبير. ويحضر معها خياران: إما إصلاح ذاتي وإما إصلاح أجنبي. بمعنى إصلاح مبتكر من الداخل لأن هناك تنازعا، على اعتبار أن الإصلاح الأجنبي يكون على المقاس (ليس فقط السفراء والقناصل الأجانب، بل أيضا الوكلاء التجاريين).
وفي سياق حديثه عن الذاتي، أحال الأستاذ بياض الحضور على مسعى"تونسة" المغرب خلال مطلع القرن العشرين، حيث اعتبر مولاي عبد العزيز آنذاك أنه من الضرورة جمع مجلس الأعيان وربح الوقت. صحيح أنه لم يتم حل المشكل بشكل كلي ولكن خلق ارتباكا للآخر، واستطاع الخروج من الوضعية. وأشار إلى المطالب الإصلاحية عام 1934، وحكومة عبد الله إبراهيم والمخطط الخماسي 1960 إلى 1964، وصولا إلى النموذج التنموي الجديد الذي يعتبر صناعة مغربية خالصة من خلال لجنة مغربية صرفة.
ويخلص المؤرخ بياض في درسه الافتتاحي إلى أن المتأمل في هذه التجارب ينتهي إلى نتيجة مفادها أن اجتهادات الذات ولو ظهرت نتائجها طفيفة في حينها فإنها مؤسسة بنيويا إن حسمت دون تردد ورسخت ثقافة الثقة في النفس وأن العلاجات الإصلاحية المستوردة قد تدهش بلغة الأرقام والمعطيات ونوعية الشعارات ظرفيا لكنها عمليا تسمم ولا تبلسم.
"أن يتم الكشف عن نواتك الأولى داخل مغارة، وتخلص النتائج العلمية للأبحاث الأثرية إلى أن تاريخ هذه النواة يعود إلى 300 ألف سنة، ويسعف تتبع مسار ومصير هذه النواة، التي ليست شيئا آخر غير الجد الأول للإنسان العاقل،سواء من خلال المصادر الأثرية أو الأدبية، في الانتباه إلى تراكم مؤسس على الاستمرارية والتحول، فمعنى ذلك أن إعادة التفكير في سيرورة تشكل شخصيتك خلال المدة الطويلة سيقود بلا شك إلى تلمس طبقات من التاريخ البطيء، باعتبارها بنية تحتية. وسيمكن تعميق البحث، بشقيه الأثري والأدبي، من إدراك مكونات مختلف هذه الطبقات، مع ما رافقتها من تشظيات، وما واكبتها من ترميمات وتطعيمات ضمن هدا الزمن الممتد والموغل في القدم.
وإذا وضعنا هذه الترسبات الحضارية التي أخذت شكل طبقات من التاريخ شبه الراكد، بلغة فرناند بروديل، ضمن إطار جغرافييتقاسم مع الغرب الأمريكي وأقصى الغرب الفرنسي تلك العلاقة الملغزة مع الشرق التي تستبطن ما يشبه الندية والبحث عن التمايز، داخل مجال محكوم بحدود برية تجعل التأثيرات الشرقية منحصرة على التخوم أو مفتقرة لزخمها إن قُدر لها العبور، وحدود بحرية تجعل المنطقة منتهى المسير من جهة الغرب، فإن ذلك يعني أن مفهوم الحدود لديك يتجاوز التعبير عن مجرد موقع جغرافي أثير إلى عنصر جوهري من عناصر تشكل الشخصية، خلال الزمن الطويل أيضا، لكن هذه المرة من موقع احتضان الجغرافيا لتراكمات وترسبات طبقات التاريخ.
يتساءل عبد الله العروي: "هل هناك نفسانية مغربية"؟ ويجيب:" يحلو لنا أن نعتقد ذلك، كما اعتقده قبلنا سكان المغرب منذ زمن طويل". قبل أن يسأل: هل لها سلبيات؟ فيرد: " نعم لها سلبيات كثيرة. أوضحها وأكبرها ضررا للمجتمع هو التهرب من تحمل المسؤولية، وتحاشي الحسم في أي مسألة. تدل على ذلك عبارات كثيرة من خطابنا اليومي: وا خلاص.. على ما حال.. المهم...".
نسجل هذه الملاحظة الأنتروبولوجية ونستحضر تحليل أحمد المعتصم لمستويات التجاوز بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط حيث توقف عند تفوق ثلاثي في الشمال، رصده مجاليا ومؤسساتيا وتنظيميا، بينما فسر ضعف الجنوب بما أمساه ثلاثية ندوب الاستعمار وهوة الانحطاط ومهانة الهزيمة.
نثمن هذا الرصد التحليلي، ونضيف له مسألة نحسبها في غاية الأهمية مرتبطة بذهنية أهل الجنوب المتوسطي عموما، ويهمنا داخلهم الإنسان المغربي موضوع درسنا هذا. مسألة ثاوية في نفسانيته ومفسرة أيضا لمسألة التجاوز. تتصل بالعلاقة مع الزمن أو تمثل الإنسان المغربي لمفهوم الزمن، لن نحتاج إلى دليل أو مؤشر على قيمة الزمن عند الآخر، لكن نسأل عن قيمته لدى الذات؟ ونقرأ الجواب في تحليلنا لعبارات كثيرة من خطابنا اليومي من قبيل: لا زربة على صلاح.. لي زربوماتو.. رخاها الله.. لي بغا يربح العام طويل... ونفحص أثر ذلك على دورتنا الإنتاجية العامة، لندرس حجم الهدر المسجل في زمننا التعليمي وفي زمننا الإداري قبل زمننا الاقتصادي، فندرك أن ما صار اليوم من أعز ما يُطلب عند الآخر أضحى لدى الذات من أعز ما يُصلب.
أختم بموضوع الثقة بالنفس وتجاوز الإحساس بالدونية الذي نبه إليه أحمد المعتصم، وألتقط مختلف المحطات السالفة الذكر، التي كانت فيها الذات تبتكر وتجتهد للخروج من أزماتها، وكيف أنها كلما وثقت في نفسها حققت نتائج طيبة، وكلما حضر المبضع الأجنبي للعلاج إلا وسمّم الجرح. وأعود لتقليب طبقات هذا التاريخ الممتد طويلا، فألفي بينها أكثر من محطة كانت الذات فيها تستخرج أقوى ما لديها في لحظات الأزمة. حتى صار الهابيتوس المغربي مهيكلا على هذا المنوال، حيث تشكلت شخصية هادئة تستمد ثقتها في ذاتها وقدراتها من ثقل رصيدها التاريخي والحضاري، فتسالم وتهادن، ولكن في أزمنة الأزمة أو التطاول تعرف كيف تستلهم من هذا الرصيد أجوبة فاعلة بدل ردود فعل منفعلة.
لن أعود إلى الزمن الموغل في القدم لأقدم نماذج أهمل التاريخ ذكرها في هذا الشأن، بل يكفي أن أصطفي من تاريخ المغرب الراهن نماذج ثلاثة معبرة ودالة.
أولا: المسيرة الخضراء كإبداع ذاتي برمزية الإجماع لقطع دابر التطاول على السيادة.
ثانيا: هيئة الإنصاف والمصالحة باعتبارها ابتكارا مغربيا خالصا لنموذج في العدالة الانتقالية في ظل الاستمرارية، واجتهادا ذاتيا لفك كومة التعقيد التي لفت أزمة حقوقية، وتعبيرا عن وصل متصل، ولو عبر خيوط رفيعة، بين عناصر النسيج المكون للشخصية المغربية مهما بلغت درجة تنافرها.
ثالثا: التدبير الذاتي لزلزال الحوز، حيث ردت الذات المغربية بالفعل الجماعي الهادئ والمنتج ودون انفعال ولا تشنج على ذلك السؤال المستفز: هل يستطيعون من دوننا؟ أو هل يستطيعون بالاعتماد على قدراتهم الذاتية فقط؟ أجابت الذات عمليا وتطوع جون ليك ملينشون ليجيب جزءا من صحافة بلاده ونخبها شفويا...".
بهذه العصارة الفكرية اختار المؤرخ الطيب بياض أن يختم سفره الطويل، في الزمن شبه الراكد، بغرض الإمساك بالهابيتوس المهيكل للشخصية المغربية.
ثالثا: التدبير الذاتي لزلزال الحوز، حيث ردت الذات المغربية بالفعل الجماعي الهادئ والمنتج ودون انفعال ولا تشنج على ذلك السؤال المستفز: هل يستطيعون من دوننا؟ أو هل يستطيعون بالاعتماد على قدراتهم الذاتية فقط؟ أجابت الذات عمليا وتطوع جون ليك ملينشون ليجيب جزءا من صحافة بلاده ونخبها شفويا...".
بهذه العصارة الفكرية اختار المؤرخ الطيب بياض أن يختم سفره الطويل، في الزمن شبه الراكد، بغرض الإمساك بالهابيتوس المهيكل للشخصية المغربية.
النهاية