الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
فن وثقافة

المؤرخ الطيب بياض: متى تشكل الشعب المغربي؟ (1)

المؤرخ الطيب بياض: متى تشكل الشعب المغربي؟ (1) الطيب بياض
ألقى المؤرخ والأستاذ الطيب بياض بالمكتبة الجامعية محمد السقاط بمدينة الدار البيضاء، درسا افتتاحيا حول "تشكل الشخصية المغربية" عبر التاريخ، وهو الموضوع الذي قال إنه شغله طوال خمس سنوات، أي منذ أن قُدر له الرحيل إلى الصين سنة 2018، حيث شكلت له تلك الرحلة نوعا من الصدمة مع الحضارة الصينية أكثر منها مع الحضارة الغربية، بسبب طرحه سؤال عن تلك الطفرة التي عرفتها الصين. وكان السؤال يتجاوز ما هو تقني، وما هو ظرفي ومرحلي، حول المغرب وشعبه وحضارته ولحظة تشكله وأطوار هذا التشكل ومراحل تطوره.. كل ذلك من أجل الإمساك بالهابيتوس المهيكل للشخصية المغربية.
 
 
 
أكد المؤرخ الطيب بياض أنه حين تحتك مع الإنسان الصيني تدرك أن وراء هذه الطفرة رصيد حضاري كبير جدا، تجلى في الاستثمار الذكي للتراث والتاريخ والحضارة. 

وأوضح المحاضر بأن الصين احتاجت، في لحظة تاريخية ما، إلى أن تحمي ذاتها بسور عظيم لصد قبائل غازية، وواجهت غزوا برتغاليا مبكرا لشواطئها، بل واجهت غزوا بريطانيا بمخدر الأفيون لغزو عقولها قبل مجالها، وواجهت استعمارا من الجوار الياباني، وانتزع منها منصبها في الأمم المتحدة ليسلم إلى التايوان، بين 1949 و1971 (بالمناسبة لعب المغرب دورا كبيرا في عودة هذا المقعد إلى الصين). مشيرا إلى أن الصين قد شعرت بجرح في كبريائها، فقدمت ما أسمته بالاشتراكية ذات الخصائص الصينية أو عصر الإصلاح والانفتاح الذي استمد قوته من هذا الرصيد الحضاري. 

وتوقف بياض عند قولة "نابليون بونبارت": "عندما تنهض الصين سيهتز العالم". وقال إن الصين نهضت، ولكن من قلب انبعاث حضاري كبير اتكأت عليه لتقول كلمتها.  يومها كان علي أن أرحل، يضيف بياض، (ذهابا وإيابا) بين رصيد حضاري هناك ورصيد حضاري هنا. ما هو هذا المشترك؟ لنا ثقلنا ورصيدنا الحضاري، فكيف يمكن أن نعود إليه بشكل إيجابي ومنتج لنؤسس معه هذه القراءة المنتجة؟ 

وأشار الباحث إلى أنه وجد في هذا الأمر نوعا من التحدي، يتجلى في كيف يمكن له أن يكتب عن ذاته بموضوعية؟ كان هذا هو التمرين الصعب. ولكن كان أمامه أستاذ كبير ومؤرخ له مكانته الريادية على المستوى الدولي، ويتعلق الأمر بفرناند بروديل، الذي كتب مجلدا ضخما، عنونه بـ "هوية فرنسا". حيث اعتبره نموذجا للاستئناس في عمله البحثي.

وذهب الباحث إلى أن هذه التجربة البحثية قادته إلى نوع من التحدي مع الذات، تقاسمها مع الحضور من أجل التقعيد للشخصية المغربية من خلال طرحه "سؤال يروم القيام بنوع من التمرين في العلاقة مع هذا الموضوع. وقال: "أتقاسم معكم عصارة وخلاصات هذا البحث الذي ناهز تأمله خمس سنوات، ولكن البحث فيه عمليا استغرق زهاء عشرة أشهر".

وتابع أنه لـ " تكتب عن الذات، أو الوطن، أو الأرض، أو الهوية، وأن تكتب عن الانتماء بكل أبعاده ومعانيه من موقع علمي ينشد المعالجة الأكاديمية بالموضوع. لابد أن تقع تحت ضغط قوتين متعارضتين. الذاتية والموضوعية الوجداني والعقلاني، نوازع النفس ووازع الصنعة".

وشدد على أنه "من الصعب،  أو ربما من الوهم، أن يدعي باحث ما أنه أدخل موضوعا من هذا القبيل إلى مختبر البحث وتعامل معه بحياد مطلق، والأهم بدم بارد كما يتعامل علماء البيولوجيا مع عينات الدراسة المنتقاة لإجراء الاختبارات والأبحاث المجهرية". على اعتبار أن الأمر "يتعلق بكتلة مشاعر وجملة عواطف مستبطنة، نحملها في وعينا ولا وعينا، اتجاه الفضاء الذي ننتمي إليه، والذي قد يبدأ بالبيت وينتهي بالوطن الجامع، مرورا بالحي أو الدوار ثم القبيلة أو المدينة، تلعب دور الموجه بشكل لاشعوري فتلعب فعلها لتحجِّم مساحة الموضوعية بعد أن تكون قد أوحت للذاتية بالتسلل ولو عبر مسام دقيقة إلى أعمالنا حول ذواتنا". 

وللتدقيق أكثر في موضوعية البحث أشار إلى أن"الوعي بانغراسها في عقلنا الباطن والإقرار بمفعولها المغناطيسي اللاإرادي هو المدخل السليم للحد من تأثيرنا على فهمنا الموضوعي لما نروم دراسته من منطلق الحرص على بناء معرفة تاريخية تتمتع بقدر محترم من المصداقية تضمن لنفسها أمد حياة أطول وهي تطمح لرصد العُصارة الذهنية لتجربة إنسانية عاشها من عمر هذا الحيز المجالي الواقع في شمال غرب إفريقيا طيلة قرون مديدة تفاعل عبر العصور ثم وجد نفسه يُلقب بالمغربي".

واعتبر المحاضر أن الأمر كان حقيقة "تمرينا تأويليا تحفه مخاطر الذاتية، وتعترضه المطبات الإبستمولوجية. لذلك لابد له من إشكالية واضحة، وبوصلة محددة، وعُدة نظرية ومنهجية مُحصنة، كما أن طول الفترة المدروسة وتشعب قضاياها ذات الصلة بجوهر الموضوع تفرض الانفتاح على حقول معرفية متعددة وتجعل التحليل ممهدا للتأويل. مع الإعراض عن الكثير من الأحداث والتفاصيل التي يجري تكثيف جوهرها داخل وعاء التركيب".

وبسط الباحث التاريخي الإشكالية وعُدة معالجتها، علاوة عن ثلاثة محطات لتأثيث هذا الموضوع، بحكم أنه يشتغل على الزمن الطويل.
المحطة الأولى أسماها بـ "ولادة مبكرة وتشكل في زمن شبه راكض".
المحطة الثانية عنونها بـ "بصمة الإسلام وصدمة الحداثة".
المحطة الثالثة وسمها بـ "عصر الازدواجية أو مغربي الثنائيات".

وطرح الطيب بياض أسئلة كثيرة، من بينها، ما معنى أن تكون مغربيا؟ وما معنى أن ينشأ هذا المغربي في "جزيرة"؟ ماذا يمكننا أن نفهم من كلام شارل أندري جوليان،"والعبارة العربية "جزيرة المغرب" ليست من قبيل الاستعارة فحسب. بل هي تمثل هذا الميل إلى الدوام الذي تختص به الجزر، فالمدنيات المتتابعة التي طرأت من الخارج لم تكن بالنسبة إلى البربري إلا ثيابا متنوعة تستر جسدا وروحا لا يتغيران". وفيما يتساءل دانييل ريفي "ابتداء من أي لحظة تاريخية يصح أن نتكلم عن كيان اسمه المغرب"، قبل أن يحسم في أمر البداية مع إدريس الأول، يسائل عبد الله العروي ذاته في كتابه "استبانة"، هل وجد على الدوام شعب مغربي وأمة مغربية؟ بينما يختم جرمان عياش دراسته المخصصة لموضوع "تكوين الشعب المغربي" بسؤال قديم جديد أو لنقل متجدد، كيف لا يكون الحاضر نتيجة للماضي؟ 

في هذا السياق، سجل المؤرخ الأستاذ الطيب بياض التحذير المنهجي الذي نبه إليه عبد الله العروي ومضمونه "أنه ليس من حق أي أحد أن يسحب واقعا متأخرا على حقب أولى من التاريخ، مع ما يعنيه من ضرورة تفادي تفسير أي طفرة أو انعطاف أو تحول في هذا المسار الممتد انطلاقا من تطور لاحق". ويستحضر تنبيها منهجيا آخر، لا يقل عنه أهمية لإبراهيم بوطالب مرتبط بـ "الأناكرونية" بما هي خروج عن الزمان، وإذا خرج المؤرخ عن الزمان خرج عن المنطق الذي تقوم عليه صناعته.

وشدد في حديثه على أن المؤرخ عبد الله العروي لم يمل من تكرار ذلك التحذير المنهجي، خاصة في نقده للتهافت الذي وسم الأبحاث الأجنبية التي رامت التأريخ لماضي المغرب البعيد، سواء أتعلق الأمر بما قبل التاريخ، أو التاريخ القديم. وأشار إلى الباحث إبراهيم بوطالب الذي لم يكل من التنبيه لأهمية المصطلح في التاريخ، ولو بنفس بيداغوجي، وهو يرى بأن الإسقاطات قد استشرت بين جيل يستسهل التأليف ولا يحتكم فيه لأي وازع إبستيمي.

لذلك جدد الباحث القول بأن طرق باب هذا الموضوع بالغ التركيب والتعقيد،يفرض ضرورة التفطن إلى هذه الثغرات، لتكون الهواجس المنهجية محددة وموجهة في التعاطي مع ببليوغرافيا متنوعة، الحقول المعرفية والخلفيات الإيديواوجية.

وقال في هذا الصدد بأن الكتابات المعاصرة التي عالجت هذا الموضوع من 1787 إلى خريف 2023، (من لويي دوشونييي إلى حدود عمل حسن طارق "الوطنية المغربية") لامست هذا الموضوع بمستويات مختلفة. الأساسي مرتبط بمدى انتصارها للرصانة والعمق الفكري وعدم الانحياز إلى استراتيجيات إيديولوجية معينة، سواء استعمارية أو وطنية. وهذا الأمر يفرض تعاطيا نقديا مع ما يمكن الاطلاع عليه من هذه المراجع.

وأوضح المحاضر أن التحدي الآخر الذي شغله، هو أنه يخوض في موضوع أنجزت حوله أبحاث كثيرة، فماذا عسى هذا الذي وصل متأخرا أن يضيف إلى ما سبقه إليه الأوائل؟ لذلك وجد نفسه أمام خيارين في هذه الحالة، يقول:"إذا كان لدينا كل هذا الثراء، إما أن نبحث عن وثائق جديدة لم ينتبه إليها من سبقونا، ونضيف إليهم ما توصلنا إليه أو ما أفادتنا به هذه المراجع، أو أن نعتمد مدخلا منهجيا جديدا يعطينا زاوية نظر جديدة أو توسيع منظار الانتباه إلى الأشياء التي لم ينتبه إليها من سبقونا، أو هما معا".

وأكد الباحث أن مجال تخصصه بعيد كل البعد عن هذا الأفق، بقوله:"لا أفهم شيئا في الحفريات الأثرية ولا الرسوم الصخرية".  لكنه شدد على أنه يعتبر أن رهانه الأساسي سيكون الارتكاز على "عُدّة نظرية ومنهجية تسعى إلى أن تستأنس بأدوات بحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية لمحاولة الإطلالة على هذه السفوح التي ربما ظلت ظليلة في هذا التاريخ، وبالتالي تسعى إلى أن تظفر بذلك الخيط الناظم أو الخيط الهادي إلى رصد مخاض الولادة وتتبع أطوار التشكل ورصد مراحل التطور". فجاءت عُدته المنهجية خماسية الأركان أو المفاهيم: مفهوم المدة الطويلة للمؤرخ الفرنسي فرناند بروديل، مفهوم الحدود في التاريخ للمؤرخ الأمريكي فريدريك جاكسون تورنير، مفهوم الشخصية للأنثروبولوجي الأمريكي رالف لينتون، مفهوم الهابيتوس لعالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، ومفهوم الوطنية للمؤرخ الأمريكي بويد شيفر.
 
 
يتبع