الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

أحمد اوالطالب محند: بنيوية الجفاف ورهانات التنمية الفلاحية بالمغرب

أحمد اوالطالب محند: بنيوية الجفاف ورهانات التنمية الفلاحية بالمغرب أحمد اوالطالب محند

أحمد اوالطالب محند: بنيوية الجفاف ورهانات التنمية الفلاحية بالمغرب

 يمر الموسمي الفلاحي الحالي بالمغرب بفترة "حرجة"، إذ أن مدة الجفاف طالت بشكل لا يطاق للموسم الفلاحي الخامس على التوالي، وحسب تصريح وزير التجهيز والماء السيد نزار البركة فمعدل التساقطات المطرية للأشهر الثلاثة الماضية (دجنبر، نونبر، أكتوبر) لا يتجاوز 21 ملم أي بتراجع ما نسبته 67% مقارنة بالمعدل السنوي العادي، وبكون الكمية الإجمالية التي استقبلتها السدود في الثلث الأول من السنة الفلاحية 2023-2024 لا تتجاوز 500 مليون متر مكعب، إذ تبلغ نسبة ملء السدود إلى غاية الأسبوع الأخير من شهر دجنبر 2023 23,5%، وهي كمية ضعيفة جدا قد تنضب خلال الأشهر القليلة القادمة في حالة عدم حصول تساقطات مطرية مهمة، مع تسجيل تفاوتات مجالية لنسبة ملء السدود تبعا للخصوصيات المناخية والهيدرولوجية لكل منطقة. خاصة إذا علمنا أن الطاقة الاستيعابية للسدود بالمغرب تتجاوز 20 مليار متر مكعب.

فالمغرب لم يشهد اضطرابات جوية منذ عدة شهور، وهذا ما ينذر بسنة فلاحية أخرى جافة، وبوادرها الكبرى تلوح في الأفق، خاصة في ظل استمرار سيادة الضغط الجوي المرتفع على معظم التراب الوطني، وحتى التوقعات الجوية التي ترصدها الأقمار الاصطناعية لا توحي بقرب حدوث انفراج جوي.

فماهي الأسباب الرئيسية التي تفسر حالة "الكساد" الجوي بالمغرب؟ وماهي الانعكاسات السلبية لظاهرة الجفاف على المجال الاقتصادي؟ وما سبل التكيف والصمود إزاء هذه الظاهرة؟

 

1  دور المرتفع الجوي الأصوري في تفسير  حالة الاستقرار الجوي بالمغرب

    يرتبط الاستقرار الجوي الذي يعرفه المغرب حاليا بنسبة كبيرة بالمرتفع الجوي الأصوري الذي يهيمن على الأجواء العليا للمناطق الشمالية الأطلنتية للمغرب وعلى غرب شبه الجزيرة الإيبيرية، وسمي بالمرتفع الجوي الأصوري، نسبة إلى جزر "أزور" الواقعة في المحيط الأطلنتي والخاضعة لنفوذ الدولة البرتغالية، وتتمتع بالحكم الذاتي، وتبعد عن مدينة ليشبونة عاصمة البرتغال ب 1021 ميل أي 1643كلم.

ويشكل المرتفع الجوي الأصوري حاجزا هوائيا يمنع توغل المنخفضات الأطلنتية نحو الشمال الغربي لإفريقيا ونحو غرب حوض البحر الأبيض المتوسط، وبين الفينة والأخرى يتزحزح شمالا وجنوبا تبعا لحركة الشمس الظاهرية ولموقع هذه المنطقة بالنسبة لأشعة الشمس، مما يسمح بمرور كتل هوائية رطبة محملة بالتساقطات، يتجه بعضها نحو غرب أوربا الغربية كفرنسا واسبانيا والبرتغال.. وبعضها الآخر يتجه نحو شمال إفريقيا كالمغرب والجزائر... ومما يزيد من مخاطر هذا الاستقرار الجوي بالمغرب هو تزامنه في بعض الأحيان مع هبوب كتل هوائية باردة القادمة من القطب الشمالي ومن أوربا الشرقية (سيبيريا)، والتي تعرف في الخريطة الخاصة بالدورة الهوائية العامة بالرياح الشمالية الشرقية، إذ تتسبب هذه الكتل الهوائية الباردة في انخفاض حاد لدرجة الحرارة، تصل في المرتفعات الأطلسية والمناطق الداخلية للمغرب إلى أكثر من ست درجات تحت الصفر، وينتج عن ذلك في غالب الأحيان حدوث ظاهرة الصقيع "جريحة"، وهو ما يحد بنسبة كبيرة من استكمال الدورة الإنباتية للمزروعات البورية الخريفية كالقمح والشعير وكذلك النباتات والأعشاب في المراعي والسهوب...

 

2 تخلف  ظاهرة الجفاف بالمجال الريفي اضطرابات حادة في الدورة الاقتصادية

   تأخر التساقطات في المغرب بهذا الشكل وفي ظل غياب بدائل أخرى لإنقاذ الموسم الفلاحي في المناطق البورية، يخلق تخوفا كبيرا لدى جل الفاعلين في القطاع الفلاحي، وتفقد معها الثقة والأمل في إمكانية تدارك إنجاح الموسم الفلاحي. كما أن عدم تهاطل التساقطات بالمغرب في هذه الفترة بالذات سيكون لها وقعا سلبيا على المردود والإنتاج الفلاحيين (بشقيه الزراعي والحيواني)، لاسيما وأن الفلاحة مازالت تعتبر قطاعا حاسما في الاقتصاد الوطني وعنصرا مؤثرا في السيناريوهات التي تضعها الحكومات المغربية عند اقتراحها للقوانين المالية والتنبؤ بنسب النمو الاقتصادي في السنوات المالية القادمة، إذ أن أي اضطراب في السير العادي للدورة الزراعية بسبب ضعف التساقطات سيؤثر لا محال على الموسم الفلاحي بأكمله، وعلى الدورة الاقتصادية بالعالم القروي.

وفي مثل هذه الفترات العصيبة يمكن أن تعلن الوزارة الوصية على القطاع موسما فلاحيا جافا، مما سيستوجب معه أخذ كل التدابير الضرورية للتخفيف من حدة الأضرار الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي تلحق بالفلاحين، من خلال مواكبتهم  وتقديم  المساعدات وجميع أشكال الدعم لتجاوز مخلفات الجفاف.

ويؤدي المغرب تكلفة اقتصادية باهضة الثمن كلما طالت فترة الجفاف، على اعتبار أن أزيد من 70% من الأراضي الفلاحية تصنف ضمن الأراضي البورية، وتعتمد كليا في عملية السقي على الواردات المائية من التساقطات، مما ينعكس سلبا على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للساكنة القروية التي تقدر بأزيد من 40% من الساكنة الإجمالية للمغرب حسب الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2014، وحتى رهان تحقيق الأمن الغذائي في المزروعات الأساسية كالحبوب ( القمح الطري، الشعير...) يبقى صعب المنال في ظل أزمة المياه واستمرار سنوات الجفاف، مما يعمق من مسألة تكريس التبعية الغذائية للأسواق الخارجية لتلبية الحاجيات المتزايدة من المواد الغذائية الفلاحية، ونحن نعلم الظروف الصعبة التي يمر بها العالم في الوقت الراهن كالتغيرات المناخية وانقسام العالم إزاء مسببتها وسبل التأقلم معها... وحروب إقليمية ضارية في مناطق الإنتاج الفلاحي كالأزمة الروسية الأوكرانية وتداعياتها السلبية على التجارة الدولية وعلى فاتورة الإستيراد بالنسبة للدولة النامية. فمثلا القمح الطري الذي يعتبر العنصر الأساسي في الثقافة الغذائية للمغاربة مازال المغرب يستورد من الخارج أزيد من 50% من حاجياته، وترتفع هذه النسبة في السنوات الجافة.

ويجب التذكير في هذا الصدد إلى أن القطاع الفلاحي بالمغرب مازال يعتبر المشغل الرئيسي للساكنة النشيطة بأزيد من 40%، والمنتج للثروة، وبالتالي حدوث سنة فلاحية جافة سيكون له وقع سلبي على مؤشرات النمو الاقتصادي وعلى الناتج الداخلي الخام الذي يستمد قوته وحيويته من القطاع الفلاحي، وعلى الأنشطة الاقتصادية الأخرى ذات الصلة المباشرة بالفلاحة كالصناعات الاستهلاكية وقطاع الخدمات والمطاعم والنقل والمطاحن الكبرى... هذا بإلاضافة إلى أن معظم الفلاحين خاصة منهم الصغار ما يزالون يعتمدون على القروض البنكية في تمويل أنشطتهم الفلاحية كاقتناء البذور المختارة، شراء الآلات، استصلاح الأراضي وتجفيفها وتكلفة اليد العاملة...، الشيء الذي يسبب لهم متاعب كثيرة في عملية تسديد ديونهم العالقة للأبناك في حالة حصول ركود فلاحي مفاجئ...

 

3 - يشكل الجفاف ظاهرة بنيوية في التاريخ الحديث والمعاصر للمغرب

    للتخفيف من الانعكاسات السلبية التي تخلفها ظاهرة الجفاف بالمغرب، لا بد من استحضار قاعدة أساسية تخص المناخ المغربي، وهي أن الجفاف في المغرب هو معطى طبيعي بنيوي وليس استثنائي أو ظاهرة مؤقتة عابرة للزمن، ويجب التذكير في هذا الصدد وعلى سبيل المثال لا الحصر ببعض سنوات القحط والجفاف التي تحمل نعوتا وأوصافا مازالت حاضرة في ذهن الذاكرة الشعبية المشتركة للمغاربة إلى يومنا هذا، والتي توحي فعلا إلى أن الجفاف لم يكن ظاهرة تخص هذا الجيل الحالي لوحده، وإنما له جذور تاريخية فرض على الأجيال السابقة التعايش معه رغم قسوته وعنفه الحاد، حيث يتسبب عادة في خسائر فادحة تمس مختلف الميادين من قبيل: حدوث نزيف ديمغرافي، انتشار أعمال النهب و"السيبة" (أي الخروج عن طاعة القانون) واكتساح القبائل لأخرى بحثا عن المواد الغذائية... لذلك ترسخت بعض السنوات القاحلة في أذهان المغاربة والتي توارثتها الأجيال عن طريق فن الحكاية أو الكتابة في بعض الأحيان، ومن بين هذه السنوات  نذكر: عام "جوع" سنة 1945، وعام "البون" سنة 1944، ويرجع  أصل كلمة "البون" إلى اللغة الفرنسية »bon pour » وهي عبارة عن وثيقة أو وصل كانت تمنحه السلطات الاستعمارية للمواطنين المغاربة قصد الاستفادة من بعض المواد الغذائية الضرورية كالأرز والقمح لمواجهة موجة الجفاف والجوع، واستمر التعامل بهذا الوصل حتى بعد الاستقلال وإلى يومنا هذا، حيث يمنح للمواطنين المغاربة وصل للاستفادة من المواد الغذائية التي تدعمها الدولة كالقمح اللين في المداشر والمناطق النائية (طاطا، زكورة...).

ولعبت كذلك سنوات الجفاف في الثمانينات من القرن الماضي التي استمرت لأكثر من ست سنوات متتالية في ركود اقتصادي عميق، عجلت بالحكومة المغربية آنذاك بنهج سياسة التقشف في تدبير مواردها الاقتصادية، ومما زاد من حدة هذا الوضع هو فرض صندوق النقد الدولي على المغرب سياسة إعادة التقويم الهيكلي لترشيد وتوجيه النفقات مقابل استفادته من القروض البنكية.

وتجدر الإشارة كذلك إلى أن سنوات الجفاف غالبا ما تفرض على سكان المغرب تغيير عاداتهم الغذائية بشكل يسمح لهم التأقلم مع قلة المواد الغذائية الناجمة عن توالي سنوات الجفاف، إذ يبحثون عن بدائل تقيهم من شدة الجوع وانعدام المواد الغذائية الضرورية، فيكونون ملزمين بتناول بعض النباتات والأعشاب السائدة محليا مثل "الفصة" ونبتة "إركجي" ونبتة "أزلوز" العكاية... بالمناطق الجنوبية كواحات طاطا... والاكتفاء بنوع غذائي واحد، مما كان يسبب لهم العديد من الأمراض، وانتشار موجة الاحتقان الاجتماعي، وقد تصل انعكاساته السلبية في بعض الأحيان إلى حدوث اضطرابات سياسية كما حصل في عهد السلطان المولي عبد العزيز في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. 

 

   4 بعض الاقتراحات لتجاوز الانعكاسات السلبية لظاهرة الجفاف

   لمعالجة الإختلالات البنيوية الناجمة عن ظاهرة الجفاف في المناطق البورية، وعن التعثرات الحاصلة في  انجاز بعض البرامج التنموية في المغرب، نقترح بعض التدابير والإجراءات، ومن جملتها:

- تنمية الوعي الفلاحي لدى الساكنة القروية، خاصة حول المستجدات التي يعرفها العالم في القطاع الفلاحي، ويتم ذلك من خلال لقاءات تواصلية ودورات تكوينية، لأنه لا يمكن الرهان على قطاع اقتصادي كبير مثل الفلاحة وهو يعاني من أعطاب هيكلية، وغير قادر على سد الحاجيات الغذائية والاقتصادية للساكنة، خاصة في الزراعات البورية كالقمح الطري والشعير والذرة.. التي تدخل كما أشرنا في السابق ضمن المواد التي تحقق الإشباع الغذائي للسكان؛

  - الاعتماد على المقاربات الأفقية التي تنطلق أساسا من إشراك الساكنة القروية في وضع البرامج التنموية، ويتأتى هذا من خلال التشخيص الميداني وعقد لقاءات مباشرة مع مختلف شرائح المجتمع ومع التنظيمات الحزبية والمدنية لرصد حاجيات الساكنة وتحديد الأولويات وتصنيفها، لأن المقاربة العمودية  التقليدية ورسم خريطة التنمية من المركز دون دراسة الجدوى ودون إشراك الساكنة المحلية في بناء اختياراتهم أثبتت فشلها، وهي من العوامل الرئيسية المساهمة في فشل عدد كبير من البرامج التنموية، وتزيد من تعميق الهوة القائمة بين المجالين الحضري والقروي؛

-  تكييف بنية وسائل الإنتاج الفلاحية مع إشكالية التغيرات المناخية، وتجريب نموذج  تنموي جديد يحقق التنمية بمفهومها الشامل بالعالم القروي، ويساهم  في تقويم الاختلالات الهيكلية التي يتخبط فيها الاقتصاد الوطني والتي تحد من نجاعته، ويجيب كذلك على انتظارات ورهانات الساكنة المغربية لاسيما في العالم القروي.

- تنويع الأنشطة الاقتصادية بالعالم القروي وعدم الاكتفاء بالنشاط الفلاحي الذي يعرف تذبذبا مستمرا في مؤشراته الكمية والنوعية، بهدف توفير وتنويع مصادر الدخل وخلق فرص الشغل لفائدة الساكنة الريفية، مثل: تشجيع الاقتصاد  الاجتماعي التضامني، تثمين الموارد المجالية،  حماية وتثمين التراث المادي واللامادي من خلال ترميم المدن العتيقة والقصور والقصبات بالواحات الجنوبية الشرقية( طاطا، زاكورة، ورزازات..) لجعل التراث الثقافي بشقيه المادي واللامادي بديلا اقتصاديا وقاطرة للتنمية بالعالم القروي؛

- تعزيز دورة المرأة القروية في التنمية، وإدماجها بشكل فعلي في المخططات التنموية على اعتبار أن المرأة القروية مازالت تعاني من عدة إكراهات تقف دون إدماجها في الدورة الاقتصادية كالأمية، الفقر، والإقصاء الاجتماعي...

  - تسريع  تنفيذ برامج فك العزلة عن العالم القروي، إذ مازال عدد مهم من الجماعات الترابية تعاني من عزلة دائمة يصعب الولوج إليها، وبعضها الآخر يعاني من العزلة الموسمية المرتبطة بتساقط الثلوج والحمولات النهرية، مما يخلف هدرا زمنيا كبيرا يمكن استغلاله في عملية التنمية؛

- تصفية مشكل العقار الذي مازال يشكل أحد عقبات التنمية بالعالم القروي، لا سيما الأراضي السلالية التي يصعب تعبئتها وتجهيزها ووضعها رهن إشارة المستثمرين والمصالح ذات النفع العام بسبب تعقد مساطر نزع الملكية وتداخل عدة أطراف فيها، وبالتالي على المشرع المغربي أن يساهم في حلحلة مشكل  العقار بالأراضي البورية حتى تساهم في تلبية الحاجيات المتزايدة للساكنة وللفاعلين الاقتصاديين على حد سواء، وتشريع قوانين ميسرة لعملية التنمية، لأنه من الصعب تحقيق أهداف التنمية الترابية بقوانين يرجع بعضها إلى بداية عهد الحماية.

  - إعادة النظر في أشكال التدخلات المعتمدة في المجال القروي، حيث أثبتت فشلها في أرض الواقع، إذ مازالت مؤشرات التنمية البشرية ضعيفة مقارنة بالوسط الحضري، وأن الهجرة القروية مازالت تستفحل في صفوف الشباب مما يفرغ العالم القروي من طاقات بشرية شابة يصعب تعويضها...

أحمد اوالطالب محند  أستاذ باحث في الجغرافيا