الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد الحميد العداسي: تكفير ذبيح الله

عبد الحميد العداسي: تكفير ذبيح الله عبد الحميد العداسي
لم تُفلح بعضُ الهَنات اللغويّة أو الأخطاء الإملائيّة في كسر العزيمة والحدّ من الرّغبة في القراءة؛ فطريقة صياغته وتنوّع مواضيعه أو قل تعدّد أبطال موضوعه وتنوّعهم قد فعلت فعلها في أسري وترويضي على الصّبر والمواصلة وعدم الانتباه إلى الوقت الذي بدا قصيرا مستعجلا.
 
لقد نبّهني أحد إخوتي المبجّلين إلى وجود بعض التّشابه بين ما قرأه للكاتبة العراقيّة (بهار رضا) المترجمة المقيمة بالدّنمارك، وبين بعض ما قرأ لي في كتاب (المنعرج) أو في كتاب (مريم وإبراهيم). عبّرت له عن رغبتي في الحصول على الكتاب لقراءته وللاطّلاع على ما استوقفه فيه من تشابه، فلم يبخل عليّ بتوفيره.
 
كان عنوان (تكفير ذبيح الله) صادما غريبا؛ إذ الذّبيح هو إسماعيل عليه وعلى نبيّنا أفضل الصّلاة وأزكى السّلام، فكيف يُكفّر!.. ثمّ تفكّرت في شأن الأنبياء مع أقوامهم، فإذا النّبيّ يُكفَّر {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداٗ وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ اَ۬لتِے فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ اَ۬لْكَٰفِرِينَۖ} (الشّعراء: 17 – 18) وإذا النّبيّ يُتّهم بالسّحر {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُۥ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٌ عَلِيمٞ} (الشّعراء: 33) وإذا هو يُتّهم بالجنون {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ اُ۬لذِے أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٞۖ} (الشّعراء: 26) أو يُتّهم بالكذب {وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٞ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ اَ۬لْكَٰذِبِينَ} (الشّعراء: 186)، أو بغير ذلك من الأباطيل... لم أتسرّع في الحكم وانطلقت في القراءة رغم قِدَم العهد بالقراءة التي تمنّعت هذه الأيّام بوجود جيل كرِهها واكتفى منها بجُمل تعثّرت كلماتُها وساءت هيئة حروفها، وهي تنزل على صفحات "فايسبوك" راقبت هيئتُه الأنفاس فيه أو على "تيك تك" حجزه حمقى العرب للتّندّر والضّحك فيه والسّخريّة من أنفسهم قبل غيرهم، محاولين منْعَ كلمة حقٍّ أنيقةٍ تُذكِّر بالقِيم وبالمسؤوليّة الملقاة علينا جميعا لإشاعة الطّيّب منها.
 
في الكتاب بعنوان السِّجن فإذا نصُّه يكشف عن معنى التّكفير؛ فإنّ التّعذيب الذي يسلّطه أولاد الكلب السّفلة تنفيذا لتعليمات سلطاتهم المجرمة، التي جعلت السّجن - كما وصف وقال هذا الذي جلس أمام المساعد النّفسانيّ في الدّنمارك - مجرّد زنزانة صغيرة في وطن أصبح برمّته سجنا كبيرا، يقترف فيه ضعاف الإيمان تحت وطأة الجلّاد بعض سلوك الكفر... أعادوا بخدماتهم الجليلة - كما قال حزينا ساخرا - ترتيب خِلقته. جعلوه ينسى في لحظة ضعفٍ دعاء أمّه الذي طالما اعتبره وصيّتها له: "ليكن الله سندك وملجأك"، فينطق كفرًا صارخا متأوّها يقول: "لم أره سندي ولا حتّى ملجئي، بل كان السّجن ملجئي". نُطقٌ باللسان لم يمنع التّفقّه في الكفر والتّفلسف فيه بطريقة تؤكّد إيمانه بربّه ﷻ، فقد قال لأحد جلّاديه، وهو يصنع من أشلائه قوّة تُنطِق لسانه الحرّ: "هل تعرف ما هو الكفر يا ابن المسلوخ؟! الكفر هو عندما يكون الموت بناء على رغبة الجلّاد وليس عندما يحين الأجل". كأنّه يقول له: إنّك مهما اجتهدتَ أيّها الجلّاد البئيس الحقير، فلن أموت مهما اجتهدت في التّعذيب إلّا عندما يجيء أجلي. كأنّه يبلّغنا أنّ هذا الجلّاد المسلوخ بن المسلوخ قد أضمر قتله، شأنه شأن هذا البئيس اللعين الذي قال موجّها مرؤوسيه وعبيده: "لا تحرقوهم بالبنزين فهو سريع الاشتعال، ولكن احرقوهم بالزّيت، فصَبُّوا عليهم الزّيت وأضرموا فيهم النّار، فتحوّلوا إلى كتل ملتهبة تجري باتّجاه الصّحراء تتحسّس العطف من رمالها!"... يجوز لي أن أقول أنّ لنا في بلادنا العربيّة والإسلاميّة التي كتبت فيها الكتب النّازفة دموعا ودماء عن التّعذيب وأصنافه، قساة جفاة وحوشًا قد جرّؤوا بسِيَرِهم الصّهاينة – والصّهاينة مُتتبّعو سِيَر مراقبون - على الفعل الشّنيع في غزّة!..
 
ثمّ بلغت بعد "السّجن" عنوان "تكفير ذبيح الله"!.. ليس هيّنا على مَن مرّ بدهاليز الدّاخليّة ألّا يسترجع تاريخه فيها وما ناله من أبنائها غير الشّرعيّين. لم يكن المنسوب له الكفر أو التّكفير في عنوان الكتاب إلّا اسما من الأسماء التي يسمّيها أهلُنا المسلمون في البلاد الشّرقيّة من الأمّة الإسلاميّة، هناك في باكستان وأفغانستان وغيرهما من تلك البلدان التي أحبّت الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم حتّى كانت علوم الحديث كلّها أو جلّها من إنتاج نوابغها، وكانت أغلب كتب السّيرة النّبويّة الشّريفة من إنشاء أفاضل المسلمين من تلك البلاد القاصية، التي كان من أسماء رجالها "ذبيح الله" و"حبيب الله" و"روح الله"!..
 
لم يكتفوا بحبّ الله تعالى وحبّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم كي يُبدعوا فيما أبدعوا فيه من العلوم، بل أحبّوا بحبّهما العربَ ووقّروهم وبجّلوهم؛ حيث رأوهم الحضن الذي خرج منه الحبيب صلّى الله عليه وسلّم. ظلّوا على ذلك عهودا حتّى كانت من العرب مواقفُ دُونٍ وذلّة سبّبها ابتعادُهم عن دينهم وعدم التزامهم بتعاليمه السّمحة، كأنّهم لم يسمعوا للفاروق رضي الله عنه يذكّر وينبّه ويحذّر: (كنّا أذلّ أمّة فأعزّنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزّة في غيره أذلّنا الله). لقد ابتغوا العزّة في القوى العالميّة فتنزّل فيهم قول الصّادق الفاروق ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.
 
وأمّا الكاتبة (بهار رضا) فتناقش في كتابها على لسان "ذبيح الله" موضوعا آخر شديد الغرابة قد يكون لراويه أو ناقله تأثيرٌ على طريقة سرده وتقديمه للنّاس. فقد جاء "ذبيح الله" إلى الكنيسة النّائيّة في الدّنمارك التي آوته وقبلته لاجئا فيها هاربا من الإسلام والمسلمين، معلنا دينه البابويّ الجديد، نتيجة ما لاقى في بلده الأصليّ من سلوك "العرب الأفغان" الذين جاؤوا مناصرين للأفغان، والذين اتّهموه – كما روى - بالتّجسّس عليهم لفائدة الجهة الكافرة، فاعتقلوه ونالَ من عذاباتهم ما لم تره عينٌ أو تسمع عنه أذن أو يتحمّله بشر، حتّى رآهم - عياذا بالله - أكبر من الله الذي لم يحضر حسب تعبير الكتاب لنجدته وللدّفاع عنه. نال منهم ذلك التّعذيب لمجرّد الشّكّ في سلوكه، فقد كان طريقُه في ذهابه وإيّابه لا يخطئ ملاقاتَهم، فلمّا قبضوا عليه شاكّين فيه بالغوا في تعذيبه – كما نقل – لانتزاع اعترافات عن جهة كافرة حسبوه يعمل لصالحها. منعوه بشعار (الله أكبر) من ترديد كلمة (الله أكبر) خلال ما تبقّى من حياته. ذهب إلى الكنيسة لأنّه كما أنقل على لسانه: "أكره العرب، أكره دينهم، أعرف أنّ أيّامي معدودة، حالتي الجسديّة غير مستقرّة بسبب التّعذيب الذي تعرّضتُ له وكذلك حالتي النّفسيّة. أريد الرّحيل، ولكن لا أريد أن أقابل وجه الله دون كتاب ودين. بعد أن انتزع العرب دينهم بوحشيّة من وجودي، وفي بيت الله، جئت إلى الكنيسة لكي أتعمّد بالمسيحيّة، وأن أقابل الله وأنا على دين وكتاب" (ص: 46 – 47، منشورات ضفاف)... لقد أحسنت (بهار) عندما نبّهته بقولها: "ما تعرّضت له من تعذيب وحرق تعرّض له كثير من أتباع الدّيانة المسيحيّة إبّان محاكم التّفيش"، ثمّ انطلقت بصوتها الرّقيق الحنون تقرأ له قصيدة مولانا جلال الدّين مولوي تريد له عدم إفساد خاتمته!.. لقد أحسن "ذبيح الله" حين نسب الدّين للعرب ولم ينسبه للمسلمين؛ إذ ليس من المسلمين من يقترف ما يقترفه هؤلاء العرب!..
 
استغربت في البداية الرّواية، ولكنّ الأحداث هنا وهناك، في السّودان التي انطلقت فيها الأحداث منذ أفريل 2023، وفي غيرها من بقاع العالم الذي حكم فيه العرب المتخلّون عن الإسلام، توثّق الجرائم والفظائع البشعة والدّماء المهراقة والأعراض المنتهكة، المرتكبة كلّها تحت يافطة (الله أكبر).
 
رفيع بين قوله صلّى الله عليه وسلّم (دعوها فإنّها منتة) كما جاء في الصّحيح المتّفق عليه من رواية جابر بن عبدالله رضي الله عنهما وبين وجود الرّايتن والرّاية الجامعة، فقد كان للأنصار راية وللمهاجرين راية وكانت لهم جميعا راية. فالنّيّة هي التي تُصلح الرّاية أو تفسدها، والنّيّة هي التي تُعليها وتعزّ أهلَها أو تنكّسها وتُرديها وتذلّ أهلها، وهي التي تجعلها منتنة أو تجعلها سبب تنافس في الخير ومباهاة!..
 
يقول "ذبيح الله": "بعد أن نقشوا على جسدي بلغتهم لعناتِهم وطلاسمهم، صبّوا ما كان متبقّيا من النّفط في المدفأة على جسدي وأضرموا فيّ النّار. رموني خارج المسجد وقد حسبوني فارقت الحياة، وبكت السّماء كما لم تبك يوما فأنقذ هطولها جسدي من الاحتراق"...
 
مشهد محزن غير لائق بالمسلمين، بل ليس مسلما مَن يقترف ذلك أبدا، وكان على "ذبيح الله" وقد بكته السّماء فأنقذت بقاياه ليحيى أن يفرّ إلى الله تعالى بدل أن يفرّ إلى الكنيسة، فإنّ ما ناله – لو فقه – كان بناء في الجنّة عظيما لو صبر عليه واسترجع واستقام. كان عليك "ذبيح الله" - رغم ما لاقيت - أن تنظر إلى السّماء التي أطفأت بمطرها نارك فأحيتك ولا تنظر إلى أرض سفل أهلها فأحرقتك!.. ولكن قدّر الله وما شاء فعل.
 
والحقيقة أنّه لا خير في عرب حضروا بعروبتهم دون إسلامهم بل لا خير في مدّعي إسلام إذا لم يحترم النّفس البشريّة التي كرّمها الله تعالى، فلم يؤذها ولم يُهنها ناهيك عن حرقها كما كان مع "ذبيح الله". وذات يوم حدّثني مَن لا أتّهمه بالكذب عن سبب بروز "طالبان" – وطالبان تعني بلغتهم الطّلبة - وسيطرتها في مدّة وجيزة نسبيّا على أفغانستان، فإنّه لمّا انحرفت الأحزاب السّبعة وقتها وساء سلوكها مع النّاسِ حتّى اشتكى النّاسُ، رحّبوا بـ"طالبان" دون معرفة مسبّقة لها لأجل حمايتهم وكفّ ظلم الأحزاب عنهم.
 
ولم تخرج قصّة يونس في الكتاب عن البيئة الأفغانيّة؛ فقد تعلّقت بمناقشة سلوكٍ قديم حكّم العُرفَ والعادة وكلام النّاس دون اعتبار الشّريعة الإسلاميّة ومراعاتها أو دون فقهها؛ إذ كانوا يحسبون أنّ عاداتِهم منها. كان جدّا وكان ذا أبناء وأحفاد، ومع ذلك فقد عزم بعد (56) ستّ وخمسين سنة زواجا على إمضاء طلاق كان قد أسرّه مذ دخل بزوجته التي اختارتها له العائلة دون رضاه. طلّق كما يقول بهدف أن يعيش باختياره لحظةً حرّا دون تأثير العائلة والقبيلة. طلّق وقد أطلق جناحيه اللجوءُ في الدّنمارك، دون اهتمام بما سيخلّفه الطّلاق من الكسور الحاطمة في شخصيّة زوجته العجوز التي عانت عزوفه الذي لم ينجح – رغم ما بذل – في عدم تمكينها من ملاحظته طيلة الستّ وخمسين سنة... رأيتُ قسوته على زوجته أضعاف أضعاف قسوة عائلته عليه ورأيت طلاقه نوعا من خفّة العقل أو هو كفر للنّعمة!..
 
الكتاب أمور أخرى وثّقتها (بهار) فأبهرت ببعض الاستعمالات الأدبيّة الرّاقية وأدمعت ببعض المآسي التي يعيشها النّاس هنا وهناك، وأثبتت أنّ التّرجمة لمن أخلص فيها، رسالة ذات تأثيرات متعدّدة...