الأربعاء 27 نوفمبر 2024
فن وثقافة

فؤاد زويريق: "كأس المحبة" يطرق باب الذاكرة السياسية

فؤاد زويريق: "كأس المحبة" يطرق باب الذاكرة السياسية فؤاد زويريق ومشاهد من فيلم ''كأس المحبة''
فيلم ''كأس المحبة'' للمخرج نوفل البراوي الذي عرض يوم أمس ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني بطنجة، ينسحب تحت جنح الطبيعة الساحرة، ليضعنا وجها لوجه أمام نتوءات ومنعرجات الذاكرة السياسية المغربية، عبّر عنها منذ المشاهد الأولى، حيث انطلق المشهد الأول بسيارة تقل ثلاثة أصدقاء بين التواءات ومسالك طريق جبلية وعرة، تقودهم في النهاية إلى قرية هادئة على جبل مطل على البحر.
 الفيلم استحضر الذاكرة السياسية لليسار كما قلتُ، لكن دون فلاش باك، ودون عودة إلى الماضي السياسي بتاريخه وتفاصيله، إذ اكتفى بخلية يسارية ضيقة كان لها نشاط معين إبان فترة الصراعات السياسية بالمغرب، هذه الخلية التي تحولت إلى شلة هي التي شكلت في الفيلم التركيبة الدرامية بكل أحداثها وشخصياتها.
الأحداث بسيطة للغاية تستفرد بالمكان لتخليص حسابات الماضي، الفيلم، لا يحاكم اليسار، كما سيعتقد البعض، بل يجعل أفراد الخلية يتواجهون مع بعض بعد سنوات طويلة ليحاكموا بعضهم البعض، وهنا تنكشف أسرار الشخصيات، وحقيقة اعتناقهم لمبادئ سياسية معينة ومدى إيمانهم بها وتطبيقها واقعيا.
 الشخوص هي أساس الفيلم وليس الأحداث، إذ كان التركيز على ماضي كل شخصية وحاضرها، وهذا التقابل هو الذي طور البناء الدرامي، فنجد شخصية الشاعر اليساري الهادئ رشيد/مسعود بوحسين، الذي آمن بأفكار اليسار وناضل من أجلها وسجن 15 عاما، ومع ذلك بقي وفيا لأفكاره، ولدينا أيضا سعاد/ثريا العلوي التي كانت عشيقة رشيد وبعدما سجن تزوجت أحمد/محمد خويي الذي كان معهم أيضا في نفس الخلية، لكنه لم يسجن كما سجن باقي رفاقه، وهنا يطرح السؤال، سعاد بدورها بقيت متشبثة بمبادئها رغم كل شيء، ونلمس هذا في رفضها بيع أرض ورثتها عن أبيها، رغم إغراءات الربح، خوفا من طرد أناس فقراء بنوا عليها مساكنهم.
 الشخصية التي فجرت الأحداث وبعثرت كل الأوراق، هي شخصية عبد السلام أو نعيمة/عادل أبا تراب، التي صودف تواجدها في نفس القرية، لتكتمل حلقة الرفاق/الأصدقاء، وتنفجر أسرار كثيرة كانت متوارية خلف الذاكرة، فنعيمة أو عبد السلام الذي كان يؤدي دور شخصية مثلية لها ماض نضالي، لكنها بسبب الظروف تحولت إلى راقصة وعاشقة لعجوز جاهل متسلط، وضعت الكل أمام المرآة، فأسرت لهم بسر قتل واحد من رفقائهم ظنوا أنه انتحر، من طرف رفيقهم الدكتور أحمد الذي انكشفت حقيقته وأنه كان مجرد مخبر خائن وانتهازي، استغل كل الظروف للوصول إلى ما وصل إليه كطبيب غني، له علاقات مهمة، وأيضا حصوله على عشيقة رشيد كزوجة. 
هذا التشابك بين الشخصيات مهم جدا وعلى إثره تأسس السرد وبنيت الأحداث التي انتهت بتحديد مصير كل شخصية على حدة، فعبد السلام/نعيمة ترتكب جريمة قتل في حق عشيقها العجوز/عبد العاطي مباركي، وتطارد من طرف الدرك، رشيد الشاعر الهادئ وبفعل التراكمات التي شحنت داخله ضد الدكتور أحمد، والذي ارتكب خطيئة سرقة خطيبته، يثور عليه أخيرا أثناء رحلة صيد ويقذف به وسط البحر، أما سعاد فتغادر وتهرب من الكل.    
  الطبيعة هنا لعبت دورا محوريا في تشكيل معالم الأحداث، ورسم ملامح الشخصيات، فالبحر بسكونه تارة وهيجانه تارة أخرى، يحتضن انفعالات الشخصيات فتخضع له حينا، وتنفلت منه حينا آخر، وفيه وبين ضبابه حُدد مصير أحمد ورشيد أيضا، الجبل بمنعطفاته وانحداراته يرمز إلى مسار تيار سياسي كان قبل عقود مؤثرا في الحالة العامة للبلاد، وفيه قتل العجوز، وفيه حوصرت نعيمة... 
جماليات هذه الفضاءات نقلها لنا بشكل بصري متقن ورائع فاضل اشويكة، وهو واحد من أهم مدراء التصوير لدينا وموهبته لا تخفى على الجميع، والصورة في الفيلم ساهمت بالإضافة إلى جماليتها في تعبيد الطريق نحو الغوص في عمق الشخصيات وتقييم نفسيتها في الماضي والحاضر، باستخدام الزوايا ونوعية اللقطات المناسبة.
 ولا ننسى أن الفيلم اقتبس من قصة ''يوم صعب'' لمحمد الأشعري، وبالتالي فعدة أفكار وأحكام مرّت في العمل تخص صاحب القصة وهو معروف بها، وهذا النص القصصي هو وصفي بالدرجة الأولى ومن الصعب تحويله إلى عمل سينمائي لولا احترافية وموهبة كاتب السيناريو يوسف فاضل، وأيضا سيطرة الرؤية الإخراجية وانصهارها مع النص، وتعزيز أبعادها بتكوينات بصرية خففت من الملل لدى المتلقي.
الفيلم لم يخل من بعض الهنات بعضها قد يصيب المُشاهد بالتشويش، وبعضها قد يمر دون تأثير، فمثلا شخصية رشيد لم يبرر وجودها في الفيلم مع زوجين في رحلة إلى مسقط رأس الزوجة، فلا نعرف كيف تواجد معهما فجأة، بينما هذا التواجد في النص القصصي مبرر وواضح، لدينا أيضا هروب نعيمة بعد جريمتها، إذ كان هناك إطناب مبالغ فيه في المطاردة، ووصول الدرك بسرعة إلى مكان الحادث وبالضبط أثناء هروب القاتل/ة لم يكن مقنعا، مشهد ذهاب أحمد عند القائد بعد القبض على رشيد، وشعوره بالألم في ظهره فجأة وفحصه من طرف أحمد، كان للأسف مشهدا مقحما ولا دور له في السياق الدرامي... 
لكن يبقى الفيلم مهما في طرح بعض من ذاكرتنا السياسية، دون محاكمتها بخطاب مباشر فج وواضح، والشخصيات فيه لعبت دورا مهما في نحت هذه الذاكرة، و تشكيل جسرا متينا بين هذه الأخيرة والجمهور، وهو إضافة إلى الفيلموغرافيا المغربية، كعمل سينمائي مقتبس من عمل أدبي لأديب له وزنه، وكذا برؤيته الإخراجيته، وتركيبته البصرية وتماسك بنائه السردي... وحتى لا أطيل سأتناول عنصر التشخيص في مقال خاص، مستقل...