الأربعاء 27 نوفمبر 2024
فن وثقافة

فؤاد زويريق: قراءتي في فيلم ''الزفت'' للطيب الصديقي

فؤاد زويريق: قراءتي في فيلم ''الزفت'' للطيب الصديقي الطيب الصديقي (يمينا) وفؤاد زويريق
من منا لا يعرف الكبير الطيب الصديقي؟ من منا لا يعرفه كعراب للمسرح المغربي؟ من منا لا يعرفُ إرثه الفني على خشبةِ المسرح؟ الكل طبعا يعرف الراحل ويعرفه كقامة مسرحيّة كبيرة في المغرب بل في العالم العربي ككل، لكن قليلين فقط يعرفونه سينمائيا، لذا لن أتحدث عنه هنا كمسرحي ولا كممثل ولا كتشكيلي، بل كسينمائي اقتحم هذا المجال رغم توقفه بعد أول تجربة، وتجربته هذه تتجلى في فيلمه الوحيد ''الزفت''  الذي أنتجه في بداية الثمانينات، وبالضبط سنة 1984 حيث كانت السينما المغربية في بداياتها، وطبعا كانت تفتقر الى الكثير من المقومات التقنية والمادية، لكن هذا لم يمنع من ظهور تجارب فيلمية فيها إبداع وفن ورقي، ومن ضمنها فيلم ''الزفت'' الذي أعتبره شخصيا تحفة سينمائية تعكس الروح الإبداعية للطيب الصديقي كفنان شامل، وتنقل لنا شيئا من أسلوبه ونمطه الفني الذي اعتاد على تدويره في أعماله.
 
الفيلم رغم هويّته السينمائيّة إلا أنه يحمل بين طيّاتهِ الجينات المسرحية للطيب الصديقي، وهذا يظهر في العديد من المشاهد التي تمّت مَسرحتها سينمائيا - إن صح التعبير- بعدما كانت ممسرحة في الأصل، فلا ننسى أن الفيلم اقتُبس من مسرحية ''سيدي ياسين فالطريق'' للمخرجِ نفسه، وهذا ما منح للفيلمِ تميّزه وأدخله في الإستثنائية التي تميزت بها أعمال الصديقي في ذلك الوقت، الفيلم عبارة عن فرجة شعبية مغربية، قد ندرجها ضمن التجريبِ عند الصديقي سينمائيا، لأنه ثار وتمرّد عن المألوف في التجربة المغربية أنذاك، وأحدث فوضى فنية ذات معنى بدمجه الكوميديا السوداء بلوحاتٍ بصريّة احتفالية مستقاة من التراث المغربي الأصيل، حيث وظف الطقوس الجنائزية المغربية بشكلٍ جماليّ ساخر، وأيضا طقوس مناجاة الأضرحة والأولية، بالإضافة إلى قولبة طقوس تغنجة وتحويلها من طقوس لطلب المطر إلى صوّر ذات رمزية ساخرة من الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية.
 
 الفيلم ارتدى عباءَة السخريّة بجرأة، حطم الكثير من التابوهات، وفجّر الكثير من الأسئلة حول قضايا حساسة، حيث سخر من الضريح كعنوان للجهل المقدّس الذي تكرسه الدولة، وما الطريق السيّار سوى الدولة نفسها التي مارست التسلط والظلم في نزع ملكية بوعزة وزوجته وتشريدهما، بينما احتفظت بالضريح الذي بني فوق أرضه وغيرت مسار الطريق بسببه، مفارقة دالة هنا لا تحتاج منا إلى كثير من تحوير، هناك أيضا القايد والشيخ اللذان ظهرا بشكل كاريكاتوري لن تجده اليوم في أي فيلم مغربي، تناول الرشوة أيضا عندما دفع بوعزة للشيخ قصد لقاء القايد، وسخر من الدعوة إلى تشجيع الإقتصاد الوطني وفي نفس الوقت الحصول على المعونات الأجنبية، بل سخر من المعارضة نفسها في شخص الشاب العاطل الذي خرج من المدرسة، وبدأ يصول ويجول في القرية منتقدا كل شيء وحلمه أن يصبح زعيما سياسيا.
 
 الفيلم في النهاية عمل سينمائي ساخر من كل شيء، وقد كان الصديقي واعيا بماهية السينما وتأثيرها القوي على العامة كما على النخبة، واستمراريتها وخلودها إلى أبعد مدى، بخلاف المسرح الذي يعتبر أكثر نخبوية، ومعانقته للكاميرا كان من هذا المنطلق، التوسع في التأثير والإنتشار، والبحث عن فئات من جمهور لم يصلها مسرحه بعد، لذا تجد مسرحه  في الفيلم أيضا حيث لم يقطع معه نهائيا في تجربته هذه، بل كان متواجدا بشكل أو بآخر، بطريقته في توظيف الممثلين مثلا، وبأسلوبه الطليعي في قولبة التراث... الصديقي استغل بذكاء إمكانيات السينما الموسعة في التلاعب بالصورة، فدجنها ووظفها بصريا لخدمة موضوعه، إذ اعتمد على تخريجات شاعرية، ولمسات فنية ساعدت على توصيل الفكرة بسلاسة دون تعقيد، كمشهد الجنازة وحمل النعش مثلا، ومشهد النساء بعباءات بيضاء متحلقات حول نعش سيدي ياسين، ومشهد الرجال والشموع داخل الضريح... وهناك أيضا مشاهد لا تخلو من الرمزية والإسقاطات كربطة العنق التي لم يستطع أحد في القرية ربطها للشيخ/عون السلطة من أجل حضور حفل تدشين الطريق سوى مدام ''غينوا''، الفرنسية صاحبة الحانة، وقول الشيخ بعد ذلك (لهلا اخطي علينا مدام غينوا هي صاحبة التكنولوجيا)، ولقطة الرجل الأعرج الذي لا يتحرك سوى مستندا على عكازه وعلامة الطريق التي تحذر من العجلة وتدعو الى التأني، وأيضا الشيخ الذي يقرأ ماهو مكتوب على علبة الكبريت ويقف عند عبارة تشجيع الإقتصاد الوطني، وفي نفس الوقت لم يخجل في قبول الرشوة، والشابة التي كانت تقرأ جريدة في الحانة مكتوب عليها بالفرنسية وبخط أحمر عريض le petit Marocain بينما مدام غينوا الفرنسية تشكي بحرقة حالها وحال البلد للمدرّس... وغيرها من الإسقاطات ذات البعد الإجتماعي والسياسي.
 
ربما لم تنجح تجربته السينمائية هذه جماهريا، لعدة اعتبارات منها الثقافة السينمائية التي كانت سائدة أنذاك والتي كانت تنهل من السينما التجارية الشرقية والغربية نماذجها، وقلة التجارب المغربية التي كانت تبحث عن هويتها، لكن بالعودة إليها اليوم ستجدها تجربة فريدة من نوعها وكانت ستضيف الكثير للفيلموغرافيا المغربية لو استمرت بدل إجهاضها من أول محاولة.