كثر الحديث والقيل والقال عن سبب غياب صانع الْفُرْجَةْ "أبَّا التّْهَامِي" بمحارك سنابك الخيل والبارود عن فعاليات افتتاح موسم مولاي عبد الله أمغار، إلى درجة أن هناك من روج لإشاعة وفاته عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث اتصل بي عدد من الأصدقاء والزملاء للإطمئنان على حالته والسؤال عن وضعيته الصحية... كل ما في الأمر أن "أبَّا التّْهَامِي" كان ضيفا على أحد المهرجانات بمدينة الدار البيضاء (مقاطعة مولاي رشيد)، فضلا عن ارتباطه أيضا بمواعيد أخرى عطلت سفره إلى مدينة الجديدة.
لقد حطّ الرجل الرّحال بموسم مولاي عبد الله آخر أيام الأسبوع المنصرم، كنقطة عبور لمواسم مقبلة لا يمكن أن يتخلف عن زيارة أوليائها وصلحائها ورجالاتها، على اعتبار أن مكانة هذا الموسم لها وقع خاص على قلبه ومشاعره الإنسانية، بحكم توافد أغلب أصدقائه ومعارفه من فرسان المغرب على مولاي عبد الله أمغار، إلى جانب عشاق فن التبوريدة الذين يبتهجون برقصة "أبَّا التّْهَامِي" حين يؤشر على جودة طلقات البارود من خلال كسر "الْـﯕَنْبُورَةْ" أمام الفرسان والخيل والجمهور.
في هذا السياق تقدم جريدة "أنفاس بريس" للقراء ورقة خاصة عن شخصية الرجل الذي ربط علاقات طيبة مع أغلب علامة الخيل والفرسان، وزار بيوتهم وإسطبلاتهم، وتقاسم معهم الطعام والماء على موائدهم، وأضحى واحدا من مكونات عُدَّةْ الخيل والبارود، بل أن "أبَّا التّْهَامِي" قد تحول إلى علامة مغربية بارزة من علامات التراث اللامادي في علاقة بمكونات ومستلزمات فن التبوريدة.
في البداية... هكذا تسللت "وْلَاعَةْ" الخيل والبارود لشغاف قلب "أبَّا التّْهَامِي"
عن "اَلْبَلْيَةْ" و "لَوْلَاعَةْ" بحب الخيل وامتهان رقصة "الـْﯕَنْبُورَةْ" يقول أَبَّا التّْهَامِي في إحدى جلساتنا الخاصة في حضرة عشاق الخيل والبارود: " كُنْتْ مَازَالْ طِفْلْ. مْشِيتْ مْعَ اَلْوَالِيدْ لِلْمُوسَمْ. إِيوَا يَا سِيدِي عْلِيكْ خَرْجْ بَارُودْ مْكَاحَلْ سَرْبَةْ اَلْخَيْلْ مْسَاوْيِينْ مِيزَانْ. هُوَ يْـﯕُولْ لٍيَّا اَلْوَالِيدْ: نَوضْ السِّي التّهَامِي هَزْ هَادِيكْ اَلْـﯕَنْبُورَةْ وْهَرَّسْهَا بِمَاهَ ﯕُدَّامْ اَلْعَلَّامْ واَلْخَيْلْ. أُو كَانَتْ هَاذِيكْ هِيَّ اَلْمَرَّةْ الأُوْلَى الِّلي هَرَّسْتْ اَلْـﯕُلَّةْ ﯕُدَّامْ اَلْجَمْهُورْ...".
السؤال الذي أنتصب أمامي بعد حكيه لبداية انخراطه في هذا الطقس الغرائبي، كيف يمكن أن نقرأ فسلفيا هذا الطقس الوجودي والإحتفالي، بعد أن تحول أَبَّا التّْهَامِي إلى شخصية أساسية تشهد على جودة "اَلْبَارُودْ" في علاقة مع حنكة ودربة ومراس "اَلْبَّارْدِيَّةْ" فرسان الوطن؟ وما هي أحاسيسه وكيف يعبر عنها أثناء قيامه برقصة "اَلْـﯕَرْبَةْ" التي أبدع فيها ومارسها في وسط محارك التبوريدة عبر ربوع الوطن منذ سنوات؟.
رقصة "الْـﯕَنْبُورَةْ" نمط تراثي احتفاء بالشّجعان وْلِيدَاتْ الْوَطَنْ
إن مادة الطين (اَلْفَخَّارْ) في نظر أَبَّا التّْهَامِي اَلْعَبْدِي هي أصل الوجود وأصل الحياة، ولن تكتمل الفُرجة والفرحة في محرك اَلْخَيْلْ واَلْبَارُودْ إلا بالاحتفاء بالطّين (الفخار) لتتجدد الولادة، ويتجدد معها طقس الاحتفاء بـ "الشَّجْعَانْ وْلِيدَاتْ اَلْوَطَانْ".
إن الطقس اَلْفُرْجَوِي الذي أدّاه أَبَّا التّْهَامِي بدار السلام وبمعرض الفرس أمام جمهور وضيوف الأمير الشريف مولاي عبد الله طيلة أيام المنافسات الوطنية (جائزة الحسن الثاني بالرباط وجائزة الملك محمد السادس بالجديدة) ، ويؤديه الرجل دائما باعتزاز وفخر فوق خشبة مسرح الفرح أمام لَمَّةْ الجود والخير على إيقاع سنابك الخيل والبارود، وسحر موسيقى سمفونية زغاريد أمهاتنا وجداتنا وفاء لـ "الشَّجْعَانْ"، (هذا الطقس الفرجوي) يجدد به أَبَّا التّْهَامِي معادلة علاقة الإنسان بالتراب والماء في حضرة النار الملتهبة المتحررة من مواسير لَمْكَاحَلْ، وكأنه يؤدي بطريقته "عْيُوطْ اَلْخَيْلْ" والتي عنوانها: "اَلْبَارُودْ عْلَى ﯕْصَاصْ اَلْخَيْلْ". حيث يرقص فرحا وهو يغني للأمن والأمان: "مْشَاتْ اَلْخَيْلْ وُجَاتْ سَالْمَا. وُتْكَلَّمْ الْبَارُودْ فِي السّْمَا، وَلَايْنِّي عَلْفَةْ مْسَلْمَا".
مرات عديدة كنت أقتحم على أَبَّا التّْهَامِي خلوته بمختبره المتخصص في صناعة الفرجة والفرح، وكنت أستخلص من ملامح وجهه وتقاسيمه وتعابير حركاته أن فلسفة اختياره لثلاثية ـ الماء والطين والنار ـ تعكس بما لا يدع مجالا للشك، هوية الفارس على صهوة الأدهم الثائر الذي يدك أرض المحرك ويثير نقع الغبار. إنها فعلا فلسفة وجودية ترتكز على انصهار كيمياء ثلاثي الوجود (النار والماء والطين)، لترسم أفق حرية "هِبَةْ اَلرِّيحْ" و تحرر قوة الفرسان على متن صهوة الخيول.
حين يُعَمِّدُ أبَّا التّْهَامْي خيول وفرسان التبوريدة بماء "ﯕَنْبُورْةْ" الطّين
تتشكل لوحة رقصة "الـْﯕَنْبُورَةْ" التي أبدعها أَبَّا التّْهَامِي أمام جمهور وفرسان وخيول الوطن سواء بدار السلام أو بمعرض الفرس، أو بمجموعة من المهرجانات والمواسم التراثية من كيمياء ثلاثية ـ الطين والماء والنار ـ (أصل الوجود)، باعتباره مزيج من خليط ساحر للألباب، يجمع في خلطة عجينه بين رمزية الماء الطاهر (وجعلنا من الماء كل شيء حيا) الناصع البياض، على اعتبار أنه يضمن شرط إشاعة الأمن والأمان، واستمرار الحياة، وبتركيزه على سيلان الماء فوق رأسه المشتعلة شيبا، يمارس طقس "تَعْوِيدَةْ" يُعَمِّدُ بها نفسه وجسد الحصان والفارس في نفس الآن، ضد العين والحسد، لإبعاد شبح النحس والأرواح الشريرة عن المكان والزمان والإنسان والحيوان...هكذا هو الرجل في اعتقادي الشخصي.
إن رسالة أَبَّا التّْهَامِي المشفرة التي يرسلها للمتلقي من خلال تكسيره "اَلْـﯕَنْبُورَةْ" ذات المنتوج الطّيني، هي تعبير عن شهادته الصادقة الأحاسيس (بصفته حَكَمْ منتخب من طرف جمهور التّْبَوْرِيدَةْ). هي تعبير عن جودة الطلقة (الْمَاصَّةْ) بطريقته الخاصة التي يرتضيها عشاقه من بني جلدته. ودليلنا في هذا أنه خلال إقصائيات دار السلام ورغم مدح أحد المعلقين (سِّي الجِّيلَالِي) لإحدى الطلقات الموحدة في "رَاسْ اَلْمَحْرَكْ"، فقد انتقلت عدسة كاميرا المخرج صوب أَبَّا التّْهَامِي بسرعة لنقل طقس فرجة رقصة "الـْﯕَنْبُورَةْ"، لكن الرجل ظل جامدا بدون تفاعل ولا حركة مع تلك الطلقة التي تمت إعادتها بتقنية "اَلْفَارْ" فكان موقف أَبَّا التّْهَامِي مشرفا باعتباره حكما ناجحا.
في مختبره الفريد من نوعه، يعجن أَبَّا التّْهَامِي بيديه الكريمتين أروع أشكال الفرح تعبيرا بجسده الراقص طربا وانتشاء بتكسير "اَلْـﯕَنْبُورَةْ"، كما فعل مع الطلقات الموحدة الناجحة وما أكثرها، حيث ينخرط في جدبة طقسه بالحركة والتلويح وكأنه ينادي بصوته العبدي وخامته "اَلْعَيْطِيَّةْ" على صانع الفخار ويوصيه بإعادة الإنتاج وتدوير مادة تراب الطين لاستمرار تدفق الماء العذب والطاهر على رؤوسنا جميعا، في لحظة التهاب النار التي يسطع نورها من مواسير مكاحل التبوريدة بمحرك دار السلام.
في مختبره الفريد من نوعه، يعجن أَبَّا التّْهَامِي بيديه الكريمتين أروع أشكال الفرح تعبيرا بجسده الراقص طربا وانتشاء بتكسير "اَلْـﯕَنْبُورَةْ"، كما فعل مع الطلقات الموحدة الناجحة وما أكثرها، حيث ينخرط في جدبة طقسه بالحركة والتلويح وكأنه ينادي بصوته العبدي وخامته "اَلْعَيْطِيَّةْ" على صانع الفخار ويوصيه بإعادة الإنتاج وتدوير مادة تراب الطين لاستمرار تدفق الماء العذب والطاهر على رؤوسنا جميعا، في لحظة التهاب النار التي يسطع نورها من مواسير مكاحل التبوريدة بمحرك دار السلام.
رقصة "الـْﯕَنْبُورَةْ" التي يؤديها أَبَّا التّْهَامِي، تشبه إلى حدّ كبير جَدْبَةْ فنان حين يأتيه الَحَالْ بمرسمه وهو متعبد في خلوته من أجل أن يبدع لوحاته الجميلة والمدهشة، لوحات عميقة لن يفلح في دعوة الرجل لممارسة طقسها إلا الْعَلَّامْ / لَمْقَدَّمْ الحاذق والمتمرس رفقة كتيبته الموفقة في الطلقة الموحدة التي تشرئب لها الأعناق وتقشعر لها الأبدان معلنة انطلاق الفرجة والفرحة على إيقاع ونغمات أغاني فن العيطة. كيف لا وهو عاشق صوت الشيخة خديجة مركوم العبدية... وتلكم حكاية أخرى.