أشعر وكأن الوقت يمر ببطء أكثر من المعتاد، ربما لأنني عاطل، والأدهى من ذلك أنني مفلس. توالت علي الأيام والأسابيع، وأنا لا أعرف من النساء والفتيات سوى سوزان، لم ألتق بفتاة مغربية في لندن. معظم وقتي أقضيه بمقهى يرتاده مهاجرون غامضون، لكنهم طيبون على الأرجح. عندما تحادث أحدهم، يرتاب منك ويمنحك انطباعا وكأنك ستضعه في مقلب، حتى أنه يكلمك باحتراس كبير يصعب أن ترفع الكلفة بينكما. لا أفهم لماذا توخي الحذر إلى هذا الحد. هذا مضحك.
أحيانا كنت ألزم الصمت، وأظل أرقب حركاتهم وسحناتهم المتعبة. يتبادلون أخبارا مستهلكة عن وطن خذلهم، لكنهم يحبونه حتى الثمالة. ينأون عن الحديث في السياسة لأن الحيطان لها آذان، وأيادي "المخزن" طويلة. هكذا يظنون. ما يشغلهم هو انتظار قدوم الصيف بفارغ الصبر، حتى يتسنى لهم إبراز ذواتهم أمام جيرانهم وأبناء قراهم ومدنهم، فينصرفون لأشغال البناء وكأنهم مقاولون جدد، يتباهون بسيارات فارهة، ويركضون فوق رمال الشاطئ، يشمون هواء الوطن ويداعبون ترابه. كنت أحدجهم مسندين ظهورهم المقوسة إلى كراسي خشبية، يلعبون البارشي والورق، ويرتشفون كؤوس شاي أخضر لساعات طويلة. يتهادى صوت رخيم للفنان بلخياط من مذياع عتيق يرتاح خلف الكونطوار، ليطرب مسامع مهاجرين منهكين. ينتحي مهاجر فارع الطول بشارب كث يدعى "ولد ميمتي" ركنا قصيا، يدخن بشراهة، فيصعد الدخان إلى وجهه حتى لا تكاد تتبين ملامحه، ثم يشرع في ترديد أغنية قطار الحياة بانتشاء وتلذذ.
مقهى كازابلانكا ممتلئ عن آخره بالرجال، ولا مكان فيه للنساء. ينبعث منه صخب مزعج ودخان كثيف، يذكرني بإحدى مقاهي السوق الداخل بطنجة. الرجال هنا لا يحبذون مطلقا فكرة تواجد المرأة في المقهى، يتصرفون وفق مبادئ وقيم نشأوا عليها في وطنهم الأم. ربما يرون في ذلك انتقاصا لكرامتها أو مزاحمة لهم. على حين، لما أطل عبر النافذة، ألمح مقهى لشبونة يعج بفتيات شقراوات وشباب أوروبي مرح. في الحقيقة، أنا لا ألومهم، لأن الوضع كان هكذا أيام الثمانينات في المغرب. المقاهي حكر على الرجال، كما هي باقي الفضاءات والمجالات. لاريب، أنها أفكار بالية وعادات متكلسة جلبها المهاجرون معهم من بلدهم الأصل، سكنت دماغهم زمنا طويلا، ثم حالت دون اندماجهم بسلاسة في مجتمع ليبرالي لا يضاهي ثقافتهم في شيء.
حينما التقيت بسعاد أول مرة قرب متحف "مدام تيسو"، بادرتها بمرافقتي إلى حديقة هولاند بارك. راقها اقتراحي، حتى أنني فوجئت بسرعة موافقتها، إذ أبدت رغبة عميقة في الحديث والتعارف، لاسيما وأنها فتاة فاسية مثقفة وواثقة من جمالها. طولها يتجاوز متر وسبعين سنتيمتر، ممشوقة القوام، تسدل شعرها الطويل الفاحم وراء ظهرها. درست مادة التاريخ في جامعة فاس قبل مجيئها إلى بريطانيا. منذ الوهلة الأولي، ألفيت نفسي منجذبا إلى حديثها ورنة صوتها الناعم. لكنها لا تدري أنها تسير جنب شاب متسكع ومفلس.
كان الطقس صيفا، بدأت الشمس تحتجب آخذة معها قيظ النهار. مشينا نحو محطة مترو "باكير ستريت"، هبطنا سلالم النفق في هدوء. المكان ضاج بالحركة، زعيق القطارات، مسافرون يهرولون في كل اتجاه، شعرت ببعض الضيق يختلج صدري. التفت يمينا فصافحت عيناي صورة ضخمة للزعيم تشرشل ممسكا بعصاه.
فجأة، انسابت أمامي مشاهد من فيلم "أحلك ساعة" للمخرج " الإنجليزي جو رايت"، يحكي فيها عن لحظات حرجة مر بها ثعلب السياسة البريطانية تشرشل حين قرر التصدي لهجوم هتلر المروع، متخذا من قبو سري تحت الأرض مكتبا لإدارة الحرب، رغم اعتراض وزير حربه الذي ما فتئ يدفعه نحو الاستسلام.
لقد دخل تشرشل التاريخ من بابه الأوسع، ذلك أنه قاد بلاده نحو النجاة التاريخي من غزو هتلر المحقق، وبالتالي انتصر بأعجوبة على زعيم مدمر مجنون.
غير بعيد عن محطة بيكاديلي بقلب لندن، وتحت سراديب نفق مترو مهجور تتخلله ممرات معتمة، كان الثعلب الإنجليزي يجتمع ليل نهار بطاقمه الحكومي لمواجهة حملة القصف النازي المكثف. أدار تشرشل المعركة بذكاء خارق وشجاعة قل نظيرها، لا سيما وأن القصف بالطيران على لندن كان في ذروته.
نظرت إلى سعاد وقلت لها: يظهر معدن الرجال عند اشتداد المحن ومجابهة الصعاب، فضلا عن اتخاذ قرارات حاسمة. لاشك أن تشرشل ينتمي لهذا المعدن النفيس.
جاء رد سعاد صادما، حين قالت بلهجة يشوبها بعض الحنق، أنها تشفق كثيرا على الرجال العرب. ولما سألتها عن السبب، ردت علي بنبرة ساخرة: الرجل العربي نرجسي بطبعه، لأنه يعتقد أن الحياة لن تستمر من دونه، وأنه محور هذا الكون، وكأن الشمس والقمر تدوران حوله.
ضحكت كثيرا من هذا التشبيه المريع، رغم ما يعتريه من مبالغة، ثم أردفت قائلا: أمر سخيف أن يفكر بعض الرجال بهذه الطريقة المخجلة...
يتبع...