السبت 27 إبريل 2024
فن وثقافة

سعيد منتسب: صديقي توفيق.. كم أفتقدك الآن حرفا حرفا !

سعيد منتسب: صديقي توفيق.. كم أفتقدك الآن حرفا حرفا ! المرحوم توفيق مصباح يتوسط حسن بيرما وسعيد منتسب ( يسار الصورة)
حين رأيته آخر مرة، قبل أيام، كان مرتخيا على سريره بقسم الإنعاش بمصحة الساحل بالدار البيضاء. نظرته مشدودة إلى شيء يراه وحده، ربما كان ينظر إلى ارتعاشة قديمة أو إلى قطرة ندى تتشكل في مهاوي قلبه، أو إلى مقطع من قصة أحشائية ضاعت منه. سألته:
-هل عرفتني يا أخي توفيق؟
-نعم. أنت سعيد منتسب.
-بماذا تشعر يا صديقي؟
-أشعر بألم شديد في صدري.
كأنه ابتسم. توفيق الساخر كان يحرك أصابعه، كيفما اتفق، في الفراغ ليجعلنا نصدق، جميلة عناب وعبد المجيد سداتي وأنا، أنه لا يخيط كابوس الرحيل في غفلة منا جميعا. خرجتُ سعيدا، رغم الألم، لأنه قرر عدم البقاء في الغيبوبة. قال عن المرض إنه قاطع طريق، وأنا استمعت إلى قصته منذ بدايتها، حين كنا نتهجى معا أطراف الأرض. لم يتغير توفيق. لم يأكله الطول والعرض، والعمق والارتفاع. ظل مطلقا العنان لقلبه منذ أن تعرفت عليه بكلية الآداب بنمسيك. أتى إلى الكلية باحثا عن أشباهه. كان يتلظى قصصا ولغة وحلما وشوقا إلى الضوء. يكتب كأنه يعزف عاصفةً، يطلق جياده المتمردة في النص، فتتحول كلماته إلى خفاقات جنونية، كأنه توفيق آخر. يكتب باستمرار ودأب، يصطاد الحكايات سمكة سمكة، ويحرص أن يلقيها في مياه روحه حتى لا تموت. نشر الكثير من النصوص في الصحراء المغربية، يسابق نفسه في الغيوم المرفوعة في خياله، ويقيسها بنصوص صديقيه الحميمين منير باهي وسعيد الشفاج. يمتلئ بضحك كثير كلما رأى اسمه في الجريدة، ثم يرفع رأسه ويمضي. 
وعرفته في حلقة الكتابة الإبداعية، نلتقي كالأشرعة في سفينة الحلم. وبدأ اللقاء الأسبوعي يتحول إلى لقاء يومي، ثم صرنا لا نفترق. نطارد الحلم الذي اشتهيناه في المكتبات والمقاهي ودار الشباب. يلاحق روايات عبد الرحمن منيف الذي يعتبره سقفا روائيا. قرأها كلها، ونام فيها واستيقظ. أذكر أنه دلني على كتابات مؤنس الرزاز، أشهر في وجهي "أحياء في البحر الميت"، وأشهرت في وجهه "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" لإميل حبيبي. تبادلنا الروايات والدواوين الشعرية وكتب النقد الأدبي والأحلام، واتفقنا على أسماء واختلفنا حول أخرى، وسرنا في ممرات مجهولة، ننزلق في الظلام، ثم نصنع من عنادنا حبالا من نور.
وها أنا أراه اليوم جبلا من ورد يبكيه أصدقاؤه بمرارة، وأمضي إليه مخفورا بضباب ناعم ذي نكهة ملائكية، وأذكر أنه أهداني بحثه الجامعي لنيل الإجازة في اللغة العربية، قائلا بالحرف: "الشيطان الذي يركبك، يركبني أيضا"، ولم يكن لنا من شيطان يسلبنا العمر سوى حقول الأدب المزدحمة بالأنبياء.
وأذكر أننا التقينا في جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، وظل مسترسلا في الكتابة كأن جوعا منسيا يمسك بأصابعه. يكتب في كل المواضيع بدربة ورشاقة. يصحح اعوجاج الكلمات، ويتابع عن كثب "الإنتاجات التلفزيونية". ألم يكن معلمه هو الراحل الكبير مصطفى المسناوي؟ لاذعا وساخرا كان، ومتابعا جيدا لما يمور تحت الأسيجة، يستهدي بإرشادات المعلم، ويترك معرفته تتراكم وتتسع وتنضج، يفاجئني كثيرا بما لا أعرفه. يكتب ولا يتثاءب. يصر على السبق والإجادة، والتحديق طويلا في شاشات العالم، ولم يتخل عن القصة. ظل يكتبها في أوقات الصفاء إلى نفسه..
ثم التحق بأسبوعية "البيضاوي" التي ارتمى بين ذراعيها كقلم في أول اهتزازه. ضم كلماته إلى كلمات الصحافي القدير عبد الرحيم أريري، فتعلم كيف يقبض على الجمر، وظل قيمة مضافة لـ"البيضاوي" التي تعمَّدت باسم جديد "الوطن الآن" قبل أن ينضاف إليها موقع "أنفاس بريس". ظل يسهر إلى آخر الليل، يكتب البورتريهات المطرزة والحوارات الافتراضية الساخرة والمقالات الفنية الزاخرة بكل معارفه. يكتب بأصابع كاملة، ممتزجا حتى الأخامص بزملائه: مريم خونا وبوجمعة أشفري ومحمد بوستة ومنير الكتاوي وسعيدة المخنث ويوسف الخطيب ورشيد الصولدي وفاطمة ياسين ومنى التحتي وعبد الله أريري ومنى الصولدي.. وآخرين. ومع ذلك، ظل توفيق وفيا لقلبين من "الاتحاد الاشتراكي" بادلاه حبا بحب وأشجار بأشجار، يزورهما باستمرار، ويدلف إلى دفئهما وهو في كامل اخضراره: حفيظة الفارسي وعماد عادل. كان يحتمي بهما دائما من آلامه وجراحه ومخاوفه، يهرب إليهما من الكسل والفوضى، لأنه كان يدرك جيدا أنهما الربيع الذي ينحني على شتائه.
لم يتغير توفيق. قد يستاء، لكنه يستاء دون دموع كاذبة. وحين يلقاك يسارع إلى إدخال استيائه في سبات عميق. المحبة لديه هي الأصل، والباقي مجرد اختلاجات. تزوج توفيق، وأصبح الفرح مهنته. وجد في زوجته الطيبة والخلوق (فتيحة) ملاذا آمنا من كل الانكسارات القديمة، وتعلم سريعا أن "الحياة أشجار وحطاب"، وأن الأسلوب هو الحرص على الاخضرار. وجاءت فرحته الأولى محسن (ابنه)، والثانية غيثة (ابنته)، واصطخب الورد في دمه. صار توفيق أجمل في بيته، يلهو بالأفلام ويكتب السناريوهات والقصص، ويعالج المقالات ويجعلها ترتدي الكثير من أناقته. وفي كل هذا الخضم، كان يجد وقتا وثيرا لأصدقائه الكثيرين. يتصبب شوقا إليهم، ويزورهم في منازلهم ومقاهيهم المعتادة، يسأل عن هذا وذاك في الأعراس والمآتم. يخدمهم بأهدابه، ويجعلهم في حضوره كأنهم يملكون اللآلئ.
توفيق مصباح لا يملك الجدران، بل يصنع النوافذ.. ويا صديقي، يا أخي، يا زميلي، يا رفيقي، يا توأمي، كل الأنفاس بعدك صحراء لا حدود لها. كم أشعر الآن بأنك كنت سقفا ومروحة !.. كم أشعر الآن أفتقدك حرفا حرفا، وقصة قصة!
كنت دائما الأفضل، لأن كنت تجعل من كل لقاء موعدا أول !