الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: الأرضُ تمتص.. قدرَ المستطاع.. الفسادَ البيئي.. لكنها لا تمتصُّ الفساد البشري

أحمد الحطاب: الأرضُ تمتص.. قدرَ المستطاع.. الفسادَ البيئي.. لكنها لا تمتصُّ الفساد البشري أحمد الحطاب
الأرض تترعرعَ فيها الحياة بجميع أشكالِها بدأً بالمخلوقات البسيطة كالبكتيريا bactérie إلى أَعقدِها تركيباً واشتغالاً كالثدييات mammifères بما فيها الكائن البشري. وهذه الحياة كانت موجودة في أشكالِها البدائية منذ ما لا يقل عن 3,5 مليار سنة. تطوَّرت هذه الحياةُ وتنوَّعت وانتشرت في/فوق الأرض برّاً، جوّاً و بحراً. ورغم انقراض كثير من أنواع الكائنات الحية الحيوانية والنباتية، فإن الحياةَ صمدت في وجه التَّقلُّبات المناخية والجيولوجية وعلى رأسها النشاط البركاني  وتكوين الجبال والقارات وتراجع البحر أو غزوه للبرِّ… فكيف صمدت الحياة في وجه كل هذه التَّقلُّبات؟.
 
لإدراك هذا الصمود، يجب أن نتصوَّرَ كوكب الأرض كنظامٍ بيئي أو كمنظومة بيئيةٍ ضخمة الشرط الأساسي لاستمرار الحياة بها هو التَّوازنُ القائم بين مكوِّنات هذه المنظومة البيئية الضخمة. والتَّوازن لا يجب تصوُّرُه كظاهرة قارة وثابتة. بل التوازن البيئي أو الطبيعي يتجدَّد باستمرار وهو الضامن الضروري لاستمرار الحياة. وعندما نتحدَّث عن التوازن البيئي، كظاهرة طبيعية، فإن الأمرَ يتعلَّق بتكافؤ مكوِّنات المنظومة البيئية الضخمة (الأرض) بحيث لا يطغى مُكوِّنٌ بيئي على المكوِّتأت الأخرى، الشيء الذي قد يؤدي إلى ظهور اختلال في التَّوازن المذكور. وبما أن الحياة أنواعٌَ، فمنها ما يصمد في وجه اختلال التَّوازن ومنها ما لا يصمد في وجه هذا الاختلال الذي قد يؤدي، مع مرور الوقت، إلى انقراض بعض الأنواع الحيوانية و النباتية. فما الذي يضمن استمرارَ التَّوازن البيئي؟.
استمرارُ التَّوازن البيئي رهينٌ بالدورات البيوجيوكيميائية cycles biogéochimiques التي، بواسطتها، تتجدَّد كل مكوِّنات المنظومة البيئية الضخمة، بما فيها الطاقة، التي هي ضروريةٌ للحياة. فنتحدَّثُ حينها عن دورات الماء والكاربون والأكسيجين والفوسفور والأزوت والهيدروجين… فحينما نتحدَّثُ عن اختلال التَّوازن البيئي، فالأمرُ يتعلَّق، في الحقيقة بالاختلالات التي تطرأ على الدورات البيوجيوكيميائية التي لم تعد تشتغل كما تفرضُ الطبيعةُ ذلك. ولتوضيحٍ أكثر، نأخذ على سبيل المثال دورةَ الماء. بسبب التَّغيير الذي أدخله الإنسانُ على المناخ، اختلَّت الفصول واختلَّت معها دورة الماء الذي أصبحنا نتجدَّث عن نذرتِه بل أحيانا عن شُحِّ الأمطار التي، إن نزلت، تنزل بغزارةٍ متسبَّبَةً في الفيضانات، وإن لم تنزل، يحلُّ الجفافُ كما هو الشأنُ لبلادنا سنة 2022. وحينما نتحدَّثُ عن شُحِّ الامطار، فالامرُ لا يتعلَّق بحجم الماء كمكوِّنٍ من مُكوِّنات المنظومة البيئية الضخمة (الأرض). حجمُ الماء الموجود داخلَ الأرض وفوقها وفي الجو محدود ولا يتغيَّر ويُعَدُّ بملايين مليارات الأمتار المكعَّبة علماً أن الكميةَ القابلة للاستعمال من طَرَف الإنسان ضئيلةٌ جداًّ بالمقارنة مع حجم ماء المحيطات والبِحار. الأمرُ يتعلَّقُ باختلال توزيع الأمطار على سطح الأرض، وبالتالي، على المنظومة البيئية الضخمة. فما الذي يضمن استمرارَ اشتغالِ الدورات البيوجيوكيميائية؟.
 
قبل الجواب عن هذا السؤال، تجب الإشارةُ إلى أن الاختلالات التي تطرأ على المنظومة البيئية الضخمة، يمكن أن يكونَ مصدرها طبيعيا، وفي غالب الأحيان وخصوصا في العصر الحاضر، من المؤكَّد أن مصدرَها بشري. بفضل الدورات البيوجيوكيميائية، المنظومة البيئية الضخمة قادرة على امتصاصَ بعض الاختلالات الطبيعية والبشرية بواسطة ما يُسمَّى بالتَّنظيم الذاتي autorégulation. لكن التَّنظيم الذاتي له حدودٌ. فإن فاق الاختلالُ هذه الحدود، ينعدم الامتصاصُ ويستمرُّ هذا الاختلال. ولعل أهمَّ اختلالٍ أدخله الإنسانُ على المنظومة البيئية الضخمة التي لم تعُدْ هذه الأخيرة قادرةً على امتصاصِه هو الزيادة المفرطة في حجم ثاني أكسيد الكاربون CO2 الناتج عن الأنشطة الصناعية والنقل التي تعتمد على طاقة النفط ومشتقاتِه. وتراكُمُ ثاني أكسيد في الجو يتسبَّبُ في الاحتباس الحراري الذي، بدوره، يتسبَّبُ في تغيير المناخ الذي ينتج عنه ارتفاع معدَّل درجة حرارة المنظومة البيئية الضخمة.
 
فإن كانت المنظومة البيئية الضخمة، بواسطة التَّنظيم الذاتي، قادرة، إلى حدٍّ ما، على امتصاصِ الاختلالات، أي الفساد (بمعنى الخلل أو التَّلف أو العطب) البيئي الذي يُدخِله عليها الإنسانُ، فإنها، على الإطلاق غير قادرة على امتصاصِ الفساد البشري الذي يتسلَّط على المجتمعات بصُورِه المختلفة الاجتماعية، الأخلاقية، السياسية، الثقافية، الإدارية، الجمعوية… وهذا يعني، في غيابِ إصلاح العقول، أن الفسادَ سيبقى ملازِما للأنسان ما دام هذا الأخيرُ موجودا على سطح الأرض. بل قد يزيد هذا الفسادُ حِدَّةً مع ازدياد عدد سكان الأرض، الذي فاق سنة 2022 ثمانيةَ مليار نسمة! وهذا يعني كذلك أن الأرضَ، كمنظومة بيئيةٍ ضخمةٍ قادرةٌ على إصلاح نفسها بنفسها بينما البشر، ما داموا ينشرون الفسادَ بين ظُهرانِهم، لن ينفعَ معهم إصلاحٌ إلا مَن رحِم ربي مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ" (الأعراف، 56).
 
في هذه الآية، لم يذكر اللَّهُ، سبحانه وتعالى، أنواعَ الفساد كما هو الشأنُ في العديد من آيات القرآن الكريم. في هذه الآيات، تمَّت الإشارة إلى مفهوم الفساد إما عن طريق فِعل "فَسَدَ" أو عن طريق مصدر هذا الفعل الذي هو "فَسَادٌ" دون الإشارة إلى مختلف أونواع هذا الفساد. ولهذا، فالفسادُ، كما ورد في القرآن الكريم، له معنى لُغوي واسع، أي الخروج عن الصواب وعن ما نهى اللهُ عنه و عن كل ما يُفسِد القيمَ الإنسانيةَ التي هي أساس تعايش وتساكن البشر. وكثيرة هي المظاهر التي تُفسِد القيمَ الإنسانية، أذكر منها على سبيل المثال : انحلال، كذب، بَغيٌ، انحراف، تحريف، انحطاط، اضطراب، إتلاف، تخريب، هلاك، إِعطاب، ضياع، خلل، اختلال، إِفساد، خداع، إخداع، باطل، ضرر، إسراف، شر، سوء، إِساءة، ظُلم، إجرام، اعوجاج، تعفُّن، تلوث، تلويث، تبذير، تبديد، تجاوز، إفراط، خلاعة، رداءة، ضلال، سفاهة، غلُوٌّ… والائحة طويلة.
 
وفي نفس الآية، لم يذكر،  كذلك، سبحانه وتعالى، أنواعَ الإصلاح علماً أن هذا الأخير  هو ضِدُّ الفساد. مفهوم الإصلاح، كما هو الشأن لمفنوم الفساد، له في القرآن الكريم معنى لغوي واسع. يقول سبحانه وتعالى : "وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا…". فإصلاح الأرض يمكن أن يكونَ ذاتياً كما سبق الذكر. ويمكن أن يتم على عدة مستويات : اجتماعيا، أخلاقيا، اقتصاديا، ثقافيا (تعليميا)، فكريا، إداريا، تدبيريا، سياسيا…
 
وكيفما كان الحال، فالفساد أو الإصلاح مصدرُهما البشر . فإن فسدت الأرضُ أو صلُحت، فالمسئول الأول و الأخير هو الإنسان. لماذا؟ أولا، لأن اللهَ أراد للبشر أن يكونوا خلفاءه في الأرض. ثانيا، الله فضَّل بني آدم على جميع مخلوقاته بالعقل. ثالثا، العقل هو الذي يُفرِّق بين الإصلاح والفساد. رابعا، الله يريد الخيرَ لعباده. خامسا، لينعموا بهذا الخير، سخَّرَ لهم ما في الأرض جميعا.
ولعلَّ أكثرَ الناسِ فسادا في الأرض هم السياسيون الانتهازيون وما أكثرهم! أليس السياسيون هم الذين يُسِنُّون القوانين التي، بواسطتها، يُدبِّرون شؤونَ البلاد والعباد؟ أليست هذه القوانين هي التي، بواسطتِها، يختار السياسيون أنماطََ الاقتصاد و الإنتاج والاستهلاك؟ أليست أنماطُ هذا الاقتصاد والإنتاج والاستهلاك هي التي تتسبَّبُ في حدوثِ الاختلالات البيئية؟ أليست القوانين التي يسنُّها السياسيون هي التي تُنتِج الفقرَ والغِنى الفاحش والريع والمحسوبية والزبوتية والفوارق الاجتماعية والتَّوزيع غير العادل للثروة؟…
وفي الختام، إن استطاعت وتستطيع الأرضُ، كمنظومةٍ بيئيةٍ ضخمةٍ، أن نمتصَّ، إلى حدٍّ ما، ما ألحق ويُلحِقه بها البشرُ من فساد بيئي، فإن امتصاصَ الفساد البشري (الاجتماعي، الأخلاقي، الاقتصادي، الثقافي…) من مسئولية الإنسانِ وحده. وكلما أصلحَ الإنسانُ نفسَه اجتماعيا وأخلاقيا، كلما خفَّ الفسادُ البيئي!