ربما يكون التحليل النفسي هو الحل التاريخي للمسلمين، إذ لم يبق من حل، في تقدير التفكير التراجيدي المشوب بالسخرية، لأمة المسلمين سوى أن تتمدد على السرير الفرويدي لعلها تصل إلى عقلها الباطن، وتفكر بعقلانية غير انفعالية ولا انفصامية في هذا "الهو" (أصل الهوية التعيسة) الذي يجعلها تفشل، حتى وهي تنجح في هذه الثورة أو تلك.
الأطروحة ربما ليست جديدة، منذ أن اكتشفنا أن للإنسان العربي المقهور سيكولوجيا تنزع به دائما بعيدا عن الطريق السيار للحضارة والعالم الحديث.. لكنها تعود من جديد، من بوابة الافتراض الساخر بأن عصابنا الجماعي يستحق محاولة أخيرة لعلنا نصل إلى ثقافة الأنوار، وعقل الأنوار، كتربة وعتبة لمجيء المجتمع الديموقراطي ونجاح الديموقراطية في استنبات نفسها في حقلنا السياسي والثقافي معا.
الثورات تبدو في كثير من الأحيان (ليس اليوم فقط) مثل "كليبات" بالأبيض والأسود بالرغم من حداثة بعضها الزمنية، أو وصفات علاجية لم تنفع، بعد أن استطاع فيروس الدكتاتوريات والهويات القاتلة أن يطور طاقته الحيوية ويستبطن الدواء في جيناته الجديدة.
العقل العربي، ذاك الذي حاول عابد الجابري ومحمد أركون وغيرهما تفكيك آلياته وإعادة الاعتبار له، يبدو مثل محاولة تسلق شاقة لعالم شاهق، بتعقده وإكراهاته وحداثاته المتناسلة.
العقل الثقافي يتأرجح بين ماض لا يمضي ومستقبل لا يأتي، وهو في راديكاليته، أحيانا يعتقد بأن أقدامه ثابتة ثباتا جيدا، دون الوعي بأنها ثابتة في.. الهواء.
والمحاولة الاقتصادية (أو الاقتصادوية) لم تنجب سوى الدكتاتوريات التي وعدت الناس بالخبز بدل صناديق الاقتراع، لكنها في النهاية لم تقدم لهم لا خبزا.. ولا ورقة التصويت.
ماذا بقي أمام أمة المسلمين، بعد العسكر طبعا؟
العودة إلى "السرير الفرويدي".
وقد عادت هذه الأطروحة من جديد، على الأقل كفكرة في كتاب فتحي سلامة، (الصادر مؤخرا في فرنسا تحت مسمى "حرب الذاتيات في الإسلام" وهو يتحدث عن المنفذ الممكن).
علينا أن نسلم، بدون كثير فكاهة بأن المحاولة تستحق أن تجرب، ما دام البديل هو.. الموت.
الفكرة لا تخلو من وجاهة، والسياق الذي نعيشه يخلق لها المعنى، كما يقول أهل اللغة، وكما هو الحال عندما تتعقد الإشكالات. الفكرة مفادها أن التحليل النفسي باعتباره نظرية عقلانية يمكن أن يساهم في رفع حالات الكبت ويتيح للعالم الإسلامي الوصول إلى زمن الأنوار والمجتمع الديموقراطي.
ولنا رهان بالفعل، على أن نستنبت هذا العلم، لقراءة الجنوح المستمر نحو الموت، حتى ونحن نبحث عن الأفضل: بوعزيزي لم يجد من طريق إلى الثورة سوى بإحراق ذاته، والأصولي لا يعرف طريقا إلى جنة الفردس سوى في تفجير ذاته وتفجير من يعيش معه زمن الجاهلية الجديدة، والفقير لا تليق بإحلامه سوى قوارب الموت.. ولا طريق سوى هاوية الهوية في كل هذا.
لنا رهان أن نعرض الحاكم الدكتاتوري أو الجماعة السلطوية على عيادات التحليل النفسي ونغريه بدخول التاريخ، لكن ليست هناك أوهام كبيرة، فالحاكم لا يعترف بالطب النفسي ولا بفرويد، وهو دليله أحيانا الذي يشهره بأنه مسلم، عندما يحارب "الأفكار الهدامة" وينفي أن يقول هناك عقل باطن..
سوى خزانة المال في غرفته !
وكان رهان ثان هو أن نحول المسلمين في أوروبا إلى عتبة للوصول إلى المستقبل الذي يعيشون فيه، افتراضا إلى جانب أصحاب الأنوار الأصليين!
هم ممكن أن يكونوا رهاننا في إدراج الأجندة الدينية في جدول التحديث الثقافي البنيوي.
كل المشكلة هي أنهم يجدون أنفسهم "خارج ملكية الحداثة". فهم، كما يحدث مع انتخابات أوروبا الأخيرة يعزلون وينبذون باعتبارهم طائفيين أو يجبرون على الذهاب .. يمينا، لأنهم، كما حلل ذلك أوليفيي روا، الأستاذ بالمعهد الجامعي الأوروبي، يشعرون أن اليسار خانهم والجمهورية تنكرت لمبادئها المساواتية عندما تعلق الأمر بهم.
هؤلاء الذين يسعون منا إلى أن يكونوا نبلاء الجمهوريات الأوربية، يتعرضون أيضا إلى قصف محافظ يدعوهم إلى العودة إلى بيت الهوية، بما هي امتثال الحاضر للماضي.
والنتيجة أن الحلم بأن يكونوا سفراءنا إلى مستقبل مبني على الأنوار يتلاشى.؟
وبعد الرهان ما الذي تبقى ؟
تبقى الحلم بالمحاولة، بأن تتمدد الأمة على سريرها الطويل العريض، من أندونيسا إلى المحيط الأطلسي، وتفكر بصوت مسموع، كعلاج جماعي، لأن هناك مساحة كبيرة مقتطعة من هذا الحلم، مساحة الفرد المفقود، لن تستعيدها ولو استعملت كل الهويات التعيسة.
وعلى كل، لكم أن تعتبروا أن هذا العرض من العبد الفقير لربه وشعبه، حالة من حالات الانفصام السعيدة!