الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

أوراق تاريخية.. تعليم الرماية بجنوب المغرب وشرط جودة جَعْبَةْ المكحلة وأنواعها (3)

أوراق تاريخية.. تعليم الرماية بجنوب المغرب وشرط جودة جَعْبَةْ المكحلة وأنواعها (3) العلامة محمد المنوني والزميل أحمد فردوس

أرخت سنة 1972 ، لبداية إصدار مجلة الأبحاث العامة "الباحث"، وهي السنة الأولى التي رأى فيها النور المجلد الأول الذي أصدرته وزارة الثقافة والتعليم العالي والثانوي والأصيلي وتكوين الأطر ـ مديرية الشؤون الثقافية بالرباط ـ

وكان ضمن مواد مجلة "الباحث" (في سنتها الأولى (المجلد الأول) سنة 1972)، وثيقة تاريخية ذات أهمية بالغة على مستوى التقديم والتحقيق، عنوانها البارز: "قطعة عن نشاط الرماية الشعبية بالجنوب المغربي"، على اعتبار أن صاحبها هو العلامة محمد المنوني، والذي كان يعد من أعلام المغرب، بصفته حارسا على التراث الثقافي، بعد أن خبر المخطوطات والوثائق والكتب، وأصبح رحمه الله خزانة متحركة، ومرجعا أساسيا لكل الدارسين والباحثين في التاريخ والتراث.

في هذا السياق تنشر جريدة  "أنفاس بريس" الحلقة الثالثة من مساهمتها في النقاش العمومي الذي تعرفه الساحة الثقافية والفكرية عامة والمشهد التراثي المغربي خاصة، بعد إدراج فن التبوريدة ضمن قائمة التراث اللامادي بمنظمة اليونيسكو، على اعتبار أن الوثيقة التي بين أيدينا تشكل مرجعا أساسيا لظاهرة الرماية الشعبية بجنوب المغرب، فضلا عن توثيق شروط "الرِّمَايَةْ" و صناعة البنادق ومكوناتها من "جِعَابْ" و "أَزْنِدَةْ" وغيرها ندرجها في هذه الحلقة.

إذا اختل شرط من شروط الرماية فسدت

تميز المدرسة الحمرية في تعليم الرماية بجنوب المغرب، انطلاقا من التعريف بظاهرة الرماية الشعبية، موضوع الوثيقة التي نشرتها مجلة "الباحث" سنة 1972، يعززه المرحوم العلامة الأستاذ محمد المنوني من خلال تناوله في الفصل الثاني الذي خصصه لتوضيح صفة المدفع (البندقية أو المكحلة) التي تستعمل في الرماية، والتي عوضت القوس الذي كان يستعمل لنفس الغرض في الزمن القديم، حيث يقول في هذا الباب:

"اعلم أن الرماية لا تحصل للإنسان إلا بتحصيل شروطها كلها"، على اعتبار أن تعليم فن الرماية كان يخضع لشروط وبرامج تعليمية كثيرة، يدرسها أشياخ أحمر للراغبين في التعلم. وأكد في هذا السياق أن اختلال أي شرط من شروطها يضع المتعلم خارج زمن التعلم، حيث يقول في هذا الصدد: "فإذا اختل شرط من شروطها فسدت".

جودة مادة الحديد المستعملة في صناعة جِعَابْ البنادق

يشرح العلامة محمد المنوني بدقة متناهية شرط جودة الحديد اعتمادا على نفس الوثيقة، حيث يعتبر أن الشرط الأول له علاقة وطيدة بتحكيم صنعة الجَّعْبَةْ وإقامتها من حديد جيد، بمعنى أن يكون نوع مادة الحديد "من معدن رطب"، بحكم أن الحديد الأحرش لا ينفع في صناعة الجَّعْبَةْ الجيدة ويشير لذلك بالقول: "وَحْرُوشَةْ الحديد لا تستقيم معه صنعة الجَّعْبَةْ، ولذلك كانت جعبة الرّوم تفوق جَعْبَةْ المسلمين".

إن وفرة مادة الحديد في بلاد الرّوم، وقلة موارده في بلاد المسلمين هي التي جعلت صناعة مواسير البنادق تتفوق على صناعتنا نحن، حيث يوضح ذلك بقوله: "وما ذلك إلا لكثرة الحديد في بلادهم، ولا يصنعون الجِّعَابْ إلا من حديد جيد بالغ الغاية في الرّطوبة، فإذا دخل فيها البريم مرة أو مرتين أو ثلاثة صفت مثل الزجاجة".

أنواع وأسماء جِعَابْ البنادق بالمغرب

ويستعرض في هذا الصدد ثمانية أنواع من جِعَابْ البنادق الوطنية الصّنع بتأكيده على أنه "برطوبة الحديد وكثرة طبخه تتفاوت الجعاب في الجودة والرداءة". وليس الأمر كما يزعم بعضهم: "أن عمل (أَبُورِي) و (تَاسَدَّ) ماض ينفذ من الفأس، وعمل (أَمْلَوَّحْ) و (أَجْوَانْ) و (ظْهَرْ السَّطْحْ) يوصل إلى البعد، وعمل (جَوْهَرْ الدَّارْ) و (أَمَجْدَامْ) و (أَعْسِيلَةْ) يشتت الحجر ويشهم العظم".

في وصف جود جعبة البندقية من داخلها

"إنما المدار على تحكيم الجعبة، ورطوبة الحديد، وتصفية الجعبة من الداخل، واستواء فمها مع خزانتها في السعة والضيق، وعدم العتبة، وعدم التشقيق والترشيح في الحديد من داخل (لجعبة)، فإذا كان قلبها مثل الزجاجة، واستوى فمها مع خزانتها في السعة والضيق، بحيث لو وضعت الرصاصة في فمها هبطت هبوطا مستويا إلى خزانتها فهي الجيدة، ولا عليك في عملها من أي نوع كان، لأن أسماء الجِّعَابْ إنما يسمونها على برادة ظهرها، وفمها من خارج، فكل اسم من أسماء الجِّعَابْ له برادة مخصوصة من فوق يمتاز بها عن غيره، ومن الباطن كلهم واحد، وجودة الجَّعْبَةْ هو في داخل لا من فوق، ولا يفضل المبسوط على العلوي ولا العكس، لأن الحديد إذا طبخ طبخا جيدا حتى يصير جسدا واحدا قام به البارود سواء كام ملويا أو مبسوطا".

عن جودة صناعة الزّنادوفحص مكونات البندقية

أكدت الوثيقة أن صناعة الزناد لدى المسلمين كانت أفضل من صنعة الرّوم، وأجودها هو ما كان يطلق عليه اسم "شَقْرَاوِي"، وهو من صناعة الزّْنَايْدِيَةْ حرفي مدينتي مكناس وفاس وقد أكدت الوثيقة المنشورة بمجلة (الباحث) ما يلي:

"أما الزّناد، فصنعة المسلمين فيه أفضل من صنعة الرّوم، ، وأفضل الزناد ما كان شقراوي: من عمل مكناس أو فاس إذا كمل طلوعه شبرا أو ما يقارب إليه، وما أقل من ذلك فهو مْكَتَّفْ لا خير فيه، وتكون نقشته متوسطة في القوة، ولا خير في الصَّعْبَةِ الطلوع والنزول". ويضيف في باب هذه الصَّنْعَةِ قائلا:"وأفضلها ما يطلعها ربها (صاحبها) بأصبع واحد، ونقشة السبيكة تكون مساوية للأخرى في القوة، فإذا كانت أقوى منها انكسر الحجر، وإن ضعفت عنها هربت السبيكة عن الحجر بسرعة وقلت النار بينهما، وكان محكم البرمة سريع اندفاع الغطاء من صحة المخيط سهل القرص، وكان تركيب جميع ما ذكرنا في السرير تركيبا حسنا، بحيث يجعل عين الجَّعْبَةْ متساوية مع طرف البرمة، لا مرفوعة عنها ولا منحدرة، وطرف البرمة مصحوب مع الجَّعْبَةْ، لا يدخل بينهما الماء، وعجفة الدراع منحدرة انحدارا حسنا إلى أن تفوت الدغمة، وترتفع الراية حينئذ إلى أن يشرف فرنها الأعلى على نيشان الخزانة، بحيث إذا وضعت عينك على فرن الراية ظهر لك النيشان الأسفل والأعلى ".

وبخصوص طول الدراع المفضل على المقاس فقد أكد على أن "طول الدراع يقيسه مالكه بشبره لا بشبر غيره، من نيشان الخزانة إلى رأس الراية شبرا وفترا (الفتر ما بين السبابة والإبهام) وكل شخص يقيس ذلك بيده، ولا يصلح أقل من ذلك ولا أكثر منه، وهذا من شروط الرماية التي تستقيم معها المدافع".                               (يتبع)