الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب

أحمد الحطاب: من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب أحمد الحطاب
هذه المقولة كثيرة التَّداول في الأوساط الدينية العلمية وعند بعض علماء الدين وفقهائه. يستعملونها عندما يُواجههم أحدُهم بجرأته الفكرية والنقدية علما أن "في غير فنه" تعني "في غير اختصاصه" و "أتى بالعجائب" تعني أتى بشيءٍ غريب، لم يسبق أن سمع به الناسُ. وقذ سبق لأحد متابعي صفحتي على الفايسبوك أن علَّق بهذه المقولة حين نشرتُ على هذه الصفحة مقالةً تطرَّقتُ فيها لمنهجية "العَنْعَنَةِ"، أي الإِسْناد الذي اعتمده، على الأخص، البخاري و مسلم في جمع الأحاديث النَّبوية. لكن ما لم ينتبه له صاحبُ هذه المقولة ومَن استعملها ويستعملُها من بعده هو أن أي جُملةٍ أو نصٍّ يمكن تفسيرُهما حرفيا كما يمكن تفسيرُهما بالقراءة بين السطور. والقراءة بين السطور هي التي تجعل القارئ يتعرَّف على الكاتب، وبالأخص، على بعض صفاته وعلى أفكاره وتوجُّخاته الفكرية. وهذا يعني أن هذه المقولة التي لا تزال متداولةً عند بعض علماء الدين والفقهاء، رغم وضوح معناها الحرفي، تُخفي وراءها كثيرا من الملاحظات. من بين هذه الملاحظات، أذكر على الخصوص :
1.الملاحظة الأولى : النرجسية
هذه المقولة تعبِّر عن نرجسية مَن ينطق بها علما أن النرجسية هي عبارة عن خللٍ في الشخصية يتمثَّل في الاستعلاء على الناش وفي الإحساس بالعظمة بكيفية جنونية. وهذا يعني أن الشخصَ النرجسي يُعطِي لنفسه قيمةً مبالغاً فيها، وفي نفس الوقت، يحتقر الآخرين. والنَّرجسي يُصرُّ على أن ينالَ إعجابَ الآخرين بينما هو لا يتواضع ليُعجَبَ بهم. يُضافُ إلى هذا أن النَّرجسيَ غير مستعدٍّ لتغيير أفكاره و آرائه.
2.الملاحظة الثانية : غياب التواضع. 
وهنا، لا بدَّ من التذكير أن التَّواضعَ يجب أن يكونَ صفةً من صفات العلماء والباحثين مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (فاطر، 28). وهذا يعني أنه، مهما عظُمَ و كبُرَ حجمُ معارف البشر، فإن هذه المعارف تبقى ضئيلةً ومحصورة بالمقارنة مع العلم الإلاهي مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا،  (الإسراء، 85) ومصداقا كذلك لقوله : "وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا" (طه، 114).
3.الملاحظة الثالثة : الاهتمام بالعلوم الدينية حكرٌ على علماء الدين والفقهاء.
هذا هو ما يمكن استنتاجُه من عبارة "أتى بالعجائب". وهنا، لا داعيَ للقول أن ما هو معمولٌ به في شتى أنحاء العالم هو نَشرُ نتائج الأبحاث ليطَّلعَ عليها الباحثون الآخرون و عموم الناس وخصوصا منهم المثقفون لإبداء رأيهم حولها، وإن اقتضى الحال، نقدُها فكريا. والعلوم الدينية والعلوم الدنيوية متساوية في هذا الأمر ما دامت كلها من إنتاجٍ بشري. لا ثم لا. علماء الدين وفقهائه لا يقبلون النَّقدَ الفكري المنطقي من خارج دائرتهم الضيقة ولو كان مَن يقوم بهذا النقد من كبار المثقفين عملاً بمقولةٍ أخرى : "مَن تمنطق، تزندق". وحتى النَّقد الفكري الآتي من داخل دائرتهم الضيقة، فإنهم يقبلونه بصعوبة، هذا إن لم ينته بشِجار وعداءٍ وتناحر. هذا هو حال بعض علماء الدين وفقهائه المصابين بالنرجسية. يعلون ولا يُعلى عليهم. وأُضيفُ أن عبارةَ "أتى بالعجائب" هي، في حد ذاتها، غريبة. لماذا؟ لأن هذا النوع من علماء الدين وفقهائه، عندما ينشرون أبحاثَهم، ينشرونها ليس لمعرفة رأي الناس فيها، بل ينشرونها ليؤمنَ بها هؤلاء الناس بدون نقاش ونقد. فعوض أن يُعتبَرَ ما يسمونه "عجائب" إغناءً للنقاش وآراء بديلة، فإنهم، بحكم نرجسيتهم، يتقوقعون في دوائرهم الضيقة المنعزلة التي تنهل من الماضي الدفين وتتنكَّر للحاضر. وكأن علماءَ الدين وفقهائه الذين يستعملون هذه المقولة يردون أن يقولوا لنا : "الخوض في مجال علوم الدين حكرٌ علينا وما عليكم إلا أن تقبلوا ما نبلِّغه لكم لأننا أعرَفُ العارفين ومتيقِّنون من ما نقول ونكتب!"
4.الملاحظة الرابعة :عدم قبول الاختلاف. 
كل مَن أو ما يُخالف أفكارَ و التوجُّهاتِ الفكرية لعلماء الدين وفقهائه، الذين يستعملون المقولة السالفة الذكر، غير مقبول. لماذا؟ لأنهم يعتقدون اعتقادا راسخا أن ما يقولونه أو يكتبونه صحيح مائة في المائة ما دام هذا القولُ أو المقروء نابعا من ناس موثوق بهم وصادقين. لنفرضَ أن هؤلاء الناس موثوق بهم وصادقون. لكن، هل هم معصومون من الخطأ؟ هل ما نقلوه لنا، منذ قرون، خالٍ من الخطأ؟ هل الناقلون بشرٌ غير عاديين لهم عقول غير عقول عامة الناس؟ ألم يقل رسولُ الله (ص) : "كل بني آدم خطاءٌ وخير الخطائين التوابون"؟ فكيف لبشرٍ أن يقبلوا الاختلافَ وأنفسُهم غارقة في النرجسية ولا يعرفون للتواضع سبيلا!
ما أعرفُه أنا شخصيا هو أن العالِمَ الباحثَ يجب أن يتمتَّعَ بصفات معينة يأتي التواضعُ على رأسها. وفضلا عن التواضع، أذكر من بين صفات الباحث في جميع مجالات المعرفة، الإبداعَ بمعنى التَّجديد و الفضولَ وتبليغ الرسائل بأسلوبٍ سلسٍ وسهلٍ. فأي عالمٍ باحثٍ لا تتوفَّر فيه هذه الصفات، فإن نتائجَ أبحاثه قد لا يُعارُ لها الاهتمامُ الكافي.
فيما يخصُّ الإبداعَ بمعنى التَّجديد، كلنا نعرف أن الإنتاجَ الفكري الديني ملتصقٌ بالماضي ونادراً ما يأتي بالجديد. إنتاجٌ فكري ديني يكاد يكون جامدا لم يحاولْ مَن يتفوَّهون بمقولة "مَن تكلَّمَ في غير فنِّه، أتى بالعجائب" تجديدَه و تكييفَه مع متطلبات العصر الحاضر. وكأن العالَمَ هو الآخرُ جامد ولم يتطوٍََّرْ ولم يطرأ عليه أي تغييرٍ و بقي كما عاشه الصحابةً و المهاجرون في عهد الرسول (ص) و كما عاشه التَّابعيون وتابعو التابعيين. والعالم يتغيَّر بتغيير الفكر البشري. وعندما أتحدَّث عن الإبداع، ليس المقصود هي التوابث الدينية التي، كما سبق أن قلتُ في مقالةٍ سابقةٍ، منفصلةٌ عن الزمان والمكان بمعنى أنها لا تتغيَّر بتغيير الزمان و المكان. ما أقصدُه هي المعاملات التي لا يمكن أن تبقى جامدةً. فظروف الحياةُ الاجتماعية في عهد الرسول وبعد وفاته، على الأقل خلالَ القرون الثلاثة الهجرية الأولى، ليست هي ظروف الحياة المعاصرة.
فيما يخصُّ الفضول، كان على مَن يتفوَّهون بمقولة "مَن تكلَّمَ في غير فنِّه، أتى بالعجائب" أن يولوا اهتماما لمَلَكَة الفضول التي هي واحدة من الصفات التي يجب أن يتمتَّعَ بها كل باحثٍ يستحق هذه التَّسمية. الباحثُ المنتجُ للقيمات المضافة هو الباحثُ الذي يعلٍّم و يتعلَّم بانتظام. الفضول هو الذي يمكِّن الباحثَ من الاهتمام بكل ما من شأنه أن ينفتِحَ على الجديد و أن يُبلِّغَه لغيره. السؤال المطروح هو : "هل علماء الدين وفقهائه كانوا في الماضي ولا يزالوا، في الحاضر، ممارسين لمَلَكَة الفضول لإغناء إنتاجهم الفكري و انفتاحهم على ظروف الحياة اليومية للناس؟" هذا هو هدف البحث، أي الانتقال من ما هو معروف إلى ما هو غير معروف. وكل بحثٍ لا يأتي بالجديد، فهو اجترارٌ لما هو معروف. وهذا هو ما يحدثُ عندما نتحدَّثُ عن الأبحاث في مختلف مجالات المعرفة الدينية. فكم هي كثيرةٌ الأبحاث في مجال الدراسات الإسلامية! لكن جلَّها يدور في حلقة مفرغة لا يأتي بجديد ينفع البلادَ والعبادَ.
فيما يخصُّ تبليغ الرسائل بأسلوبٍ سلسٍ وسهلٍ، يكفي أن نُلقيَ نظرةً على بعض كتُب الفقه وعلمِ الحديث لنلاحظَ أنه يصعُبُ على القارئ العادي أن يستوعبَ ما تُروِّجُه هذه الكتُب. فما الفائدة من هذه الكتب إذا لم يستطع عامة الناس استِعابَ محتوياتها؟ وما الفائدة منها إذا كانت مُصاغة بأسلوب ولغة ومفردات معقَّدة؟ ثم لماذا لم يهتم علماء الدين وفقهائه بتبسيط أسلوب ولغة ما ينشرونه من كُتب كما هو الشأن للعلوم الدنيوية؟ اليوم، بإمكان القارئ العادي أن يستوعبَ أكثرَ العلوم الدنيوية تعقيدا بفضل الجهود التي تُبدلُ من أجل تبسيطها vulgarisation. الفيزياء الفلكية astrophysique، الفيزياء الفضائية physique spatiale، النانوتكنولوجيا nanotechnologie… كمثال.
وخلاصةُ القول، إن الفقهاء وعلماء الدين الذين يحتقرون الناسَ، عندما يقولون "مَن تكلَّمَ في غير فنِّه، أتى بالعجائب"، إنهم، في نفس الوقت، يكشفون عن عيوبهم وعن نرجسيتهم وعن عدم تواضعهم وعن رفضهم للاختلاف... مَن تواضع لله رفعه. والغريب في الأمر أن هؤلاء العلماء والفقهاء يعرفون تمامَ المعرفة أن رسولَ الله (ص) قال : "إنما بُعِثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاق". فهل من الأخلاق أن يحتقرَ فقيهٌ أوعالمُ دينٍ غيرَه مهما كان الاختلافُ بينهم. مكارم الأخلاق التي، من المفروض أن يكونَ الفقيه أو عالمُ الدين من أحسن ممارسيها و أشرس المدافعين عنها، تقتضي أن يكونَ الاحترامُ متبادلا.