السبت 23 نوفمبر 2024
فن وثقافة

المهرجان الوطني للفيلم، ترقيع الأرقام وانهيار القيم الجمالية

المهرجان الوطني للفيلم، ترقيع الأرقام وانهيار القيم الجمالية

انتهت الدورة الخامسة عشرة من المهرجان الوطني للفيلم الذي تَمَّ تأبيده بمدينة طنجة رغم أن ذلك ليس في صالح السينما المغربية في ظل ارتفاع وتيرة إغلاق قاعات العرض، وعدم قدرة سينما الريف على استيعاب هذه التظاهرة، حيث أن عدد الذين ظلوا خارج القاعة يكاد يقرب الجالسين داخلها، وأن عدد الواقفين مرتفع أيضا.. لقد تبين أن الجهة المنظمة لم تفلح في إنجاح حفل الافتتاح بعد تراكم خبرات طاقمها وحنكته التي لا يمكن إنكارها..

 

محمد شويكة

 

إن إعادة النظر في جعل المهرجان الوطني متنقلا سيتيح انتشار الفيلم ورواجه بين الجمهور، وسيساهم في تسريع وتيرة تجديد ورقمنة وإحداث القاعات في المدن التي سيحل بها، وسينعش الاقتصاد المحلي، وسيقوم بتعضيد الجهوية -خاصة الفنية- التي أوصى بها دستور المملكة.

سنة بعد أخرى، يزداد تدهور المستوى الإبداعي للأفلام المغربية، فالقصيرة منها تنم عن استسهال في التعامل مع هذا النوع الفيلمي المشاكس؛ إذ لم تستطع غالبيتها تحقيق العمق على مستوى فكرة الفيلم، ونضج الكتابة السيناريستية، بل اهتمت بتغليب الجانب التقني على حساب إدارة الممثلين أو البحث والتجديد في مجال الإخراج، كما أبانت عن ضعف مستوى التكوين لدى جل مخرجيها.. وذلك ما حَوَّلَ السينما في نظر بعض الشباب إلى ما يشبه اللعبة الإلكترونية التي تصلح للتلهي فقط..

أما مصيبة بعض هذه الأفلام، فتكمن في خيالها المهاجر، واختلاط الهاوي منها بأفلام المدارس، والأنكى من ذلك كله اصطياد بعض «المنتجين» الأجانب لفرص قنص الدعم تحت يافطة مساندة الشباب من ذوي الأصول المغربية، وهي خطوة ترمي إلى توطيد الأرجل بالمغرب بغرض الانقضاض على دعم مشاريع هؤلاء مستقبلا.. وهو ما يجب الانتباه إليه قصد إعادة النظر في فلسفة الدعم أو التسبيق على المشاريع. فجينيريكات بعض الأفلام لا تضم إلا اسم مخرجها المغربي فقط، ولا تتحدث عن شيء يهم المغاربة اللهم إذا شفع لها جانبها الإنساني الذي لا نعترض عليه، ولكننا من مناصري دعم المنتوج الوطني الذي ينتج محليا، ويوجه للاستهلاك الداخلي قبل كل شيء، ويستفيد منه الممثل والتقني المغربي.

لقد حان الوقت لمناقشة نتائج لجان الدعم التي تجيز مشاريع أفلام لا تحقق الحد الأدنى من المصداقية، وتمنح بسخاء مبالغ مهمة لبعض الأفلام التي يظهر أنها لا تستحق حتى أن تكون أشرطة تلفزيونية في المستوى، والنتيجة إغراق المجال بزمرة من المدعين، والمتشبهين بالسينمائيين، والرفع من عدد الأفلام ولو كان بعضها قد نال الدعم منذ 2009 ليحسب على سنة 2013 أو 2014. فالأمر قد تحول إلى سباق تحطيم الأرقام، وكأننا نمتلك مئات قاعات العرض، في حين أن الواقع يظهر بأن بعض أصحاب هذه «الخردة» لا تقبل عليها إلا قاعة الفن السابع التي تقبل شكليا تمرير هذا المنتوج الرديء. وبالتالي، تُمَكِّنُ مقترفيه من إيجاد مَخْرَجٍ قانوني لوضع مشروع آخر.. وفي ذلك تغليط للرأي العام، وادعاء مكشوف لتوزيع الفيلم.. فماذا لو امتنعت هذه القاعة التابعة للدولة عن عرض هذه الأفلام، وتركت البت فيها للموزعين؟ إنها لن تخرج بالتأكيد وسيمتنع صاحبها، أوتوماتيكيا، عن الإنتاج أو ما عليه إلا أن يبذل مجهودا أكبر للرقي بمستواه الفني، واستثمار مال الدعم في إنتاج فيلمه لأن التقشف صار ميزة بعض «الإنتاجات»، وبات معه عدم استكمال تصوير السيناريو الأصلي بديهيا لدى البعض، بل يجازى عليه بالجوائز.. إن التعامل بحزم مع مثل هذه الأمور لمن شأنه أن يقطع الطريق عن كل الذين لا يؤهلهم مستواهم الدراسي لولوج عالم السينما بكل مِهَنِهَا...

لذا، فقد كشفت هذه الدورة من المهرجان عن استماتة بعض المخرجين من الشباب والمخضرمين في الدفاع عن هفواتهم -مسنودين ببعض الحَوَارِيّين- بكل ما أوتوا من أساليب التغليط متناسين بأن ما يقدمون عليه قد ساهم في هجران قاعة النقاش دون اتفاق مسبق من طرف النقاد والباحثين وبعض الصحافيين المتميزين.. وفَتَحَ المجال على مصراعيه، طبعا، للمداحين أو ما يشبه «النگافة» التي لا يهمها إلا مديح العروس. وبالتالي صرنا نلاحظ أن القاعة مقسمة بين أصوات تكرس نفس إستراتيجية النقاش، وتلوك ذات الأسئلة، وتتفق على نفس الأفكار إلى درجة يتحول معها الصوت المخالف نشازا، وذلك ما يكشف الذراع الواقية والواهية في آن واحد لمدبري هذه المهزلة الشبيهة بمسرح الكراكيز.. وليعلم من يشارك في هذه الدراما الرديئة بأن مدة المهرجان قصيرة، وتاريخ السينما طويل طويل، ولا يحتفظ إلا بأجمل الأفلام، وأرقى الكتابات، ولا ينحاز إلا للموضوعية.. قد يطالب البعض بحضور المنتقدين والمقاطعين، ولكن ما فائدة أناس لا يستفاد منهم؟! بل، وقد أبان مستوى أفلامهم، وكذا حواراتهم أن البعد أرحم من القرب...

يدافع بعض المعنيين، والمغرضين، بضرورة التشجيع، ولكنهم ينسون اليوم أنهم يتناقضون مع أنفسهم، وهم الذين يتبجحون، بمناسبة وبدونها، بأن السينما المغربية متطورة، وهي قوة إفريقية وعربية، وتحصد مئات الجوائز الدولية.. فلماذا لا تستطيع، إذن، تحمل بعض الهزات البسيطة التي هي ضرورية لكل عمل إبداعي يسعى إلى التطور؟ إن التشجيع غير العقلاني سيدمر هذه السينما الفتية، وسيضاعف حجم المتطفلين الذين ميعوا كل شيء، وصاروا يهددون المهنة والدعم معا! إن سؤال التشجيع مشروع، ولكن مساندة الضحالة يهدد القطاع الذي لم تترسخ فيه السينما كصناعة...

لقد كشفت الدورة الخامسة عشرة من المهرجان الوطني للفيلم بطنجة، وبالملموس، هشاشة الوضع، وترقيع الأرقام، وعدم نزاهة بعض اللجان، وفساد بعض الضمائر، وانهيار قيم السمو والإعلاء والجمال والموضوعية والعفة والنزاهة التي من المفروض أن يتحلى بها كل عاشق لهذا الفن.. لقد صار كل شيء مكرورا، ولم يتوان بعضها عن ترديد نفس الأشياء، والدعاية للأشخاص دون مناقشة المنجزات والأفلام، والسعي إلى زرع الألغام بين المهنيين قصد المزيد من التشتيت، والتشكيك في مصداقية بعض الناس ونشر الشائعات من حولهم..

هكذا، صار المهرجان، ومعه السينما، ذريعة لنشر تفاهات هؤلاء الذين يفاجئهم وجودهم به ويدهشهم في آن، خاصة حين يتسلمون الكلمة وهم يعلمون بأن لا تاريخ لهم في عشق السينما وتتبعها.. فكل شيء من فضل ما يقومون به (ولا حسد)!