الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

أحمد بومعيز: الحسين الميلودي .. الساحر الوديع، يرحل بعد أن فك طلاسيم رموز الشكل وتشكيلات الرمز

أحمد بومعيز: الحسين الميلودي .. الساحر الوديع، يرحل بعد أن فك طلاسيم رموز الشكل وتشكيلات الرمز أحمد بومعيز
قد يكون من باب الجحود، أوالتجاهل والتنكر أن نجهر بشهادة منمقة في حق فنان ومبدع بعد رحيله. وقد تكون ذات الشهادة مستحقة وذات جدوى في وقت سالف كان فيه الراحل بحاجة فعلية لها حتى يحس بيقين الاعتراف ومقام وموضوعية المقال.
وقد ينطبق ذات القول على ما قد أقوله في حق الفنان التشكيلي الكبير الراحل الحسين الميلودي .
لكن قد يغفر لي طبع وشخصية الراحل الميلودي ووداعته وتسامحه. فهو بطبعه لا يحب الاطناب في الحديث، ولا يحب تسليط الضوء على شخصه ولا يحب إشهار أعماله أكثر من العادي.
والميلودي بطبعه أيضا متواضع وكثوم ومحب للعمل في الظل وبعيدا عن أعين المتربصين والمتتبعين وحتى المحبين. فهو عكس الكثير من الفنانين واشباههم، لم يلهث قط خلف أضواء الكاميرات، ولا إلى المجالس والصالونات، ولا إلى أداء لوازم مقالات نقد وأقلام نقاد تحت الطلب.
وإذا كانت هذه توطئة البسيطة يفرضها السياق ذاتيا، فهي على الاقل تمنحني مشروعية صياغة هذه الشهادة، والتي قد أتقاسم جل أو بعض مضامينها مع الكثير من الذين عرفوا الحسين الميلودي عن قرب وصادقوه، وتفاعلوا مع منجزه الفني، وتتبعوا مساره، أو كانت لهم فرصة الاطلاع على مشاريعه ولو جزئيا.
فالحسين الميلودي، والذي لم تستنفد ولم تستفد تجربته الفنية من التتبع النقدي اللازم إلى حدود رحيله، فهو كفنان يبقى من رموز ورواد الجيل الثاني من الفنانين التشكيليين المعاصرين المغاربة. وهو قد يعتبر لوحده نموذجا لهذا الجيل. فالحسين الميلودي استطاع أن يزاوج بين التكوين الأكاديمي، من خلال تجربته وتعليمه بمدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء ثم بباريس بفرنسا، وبين اطلاعه وانفتاحه على التراث واهتمامه بالثقافة المحلية من خلال مكوناتها ورموزها ولغتها وفضاءاتها ومعمارها. فمثلا، الحسين الميلودي كان يتقن اللغة الفرنسية، لكنه يحب الحديث بالعربية والدارجة.
وهو يتقن الهندسة، ويحب في نفس الآن التمرد على قواعد وجفاف وقساوة الاشكال الهندسية، فيشتتها كي يعيد تركيبها من جديد وفق نسق خاص ومتفرد ومنفلت من يقينيات الحصر والتعريف، فهو في أعماله يمزج المعنى باللايقين، وحدود الشكل باللانهائي في امتداد اللون والفضاء.
وهو يتقن الدقة في تفاصيل الرسم ويتمرد على المضمون والاجمالي في نفس الآن حتى يجيب على سؤال التنوع والاختلاف والغنى ورمزية التعبير، وبذلك يفتح كل احتمالات التأويل الحر، حتى يعيد صياغة المعنى، مفضلا التمرد على يقينية الشكل الجاهز، والذي يعتبره متجاوزا في سياق التعبير الفني...وهكذا جعل من الرموز امتدادا للهندسة، وجعل من الشكل الهندسي عنصرا منسجما مع الرموز في بساطتها وحمولاتها ودلالاتها الثقافية والأنثروبولوجيا.
كما يعد ويعتبر الميلودي، وفي إطار غنى وتفرد تجربته وأسلوبه الفني، من التشكيليين الذين أخرجوا وسحبوا التشكيل من اللوحة والمرسم وقاعات العرض، إلى الواقع والشارع والحياة، في ارتباط جدلي مع المجال الوظيفي والتوظيفي للفن التشكيلي، ونرى ذلك مجسما فعليا خلال أعماله في علاقة مع الفن العربي الاسلامي في مجال المعمار كمثال. ومن بين مكونات هذا المنحى، نقف عند مجسم أو تنصيب عبارة " بركة محمد " والتي حولها من عبارة مكتوبة هندسيا ببعدين اثنين بالخط الكوفي على بعض أبواب الصويرة المدينة منذ التأسيس في منتصف القرن 18، حولها الميلودي سنة 1978 إلى مجسم /تنصيب في شكل هندسي بأبعاده الثلاث في تقاطع وتقابل وانسجام في الشكل، وقد أنجز هذا المجسم بهدف وظيفي كي ينصب على شكل منحوتة بمدخل المدينة، وهو كذلك إلى يومنا هذا.
وأيضا، ومن أشكال وغنى وقدرة الميلودي على الابتكار والإبداع في إطار وظيفية التشكيل هو إنجازه لرسوم وهندسة مجموعة من قطع الحلي والتي شكلت اهتماما فنيا موازيا بالنسبة للميلودي.
وفي مجال النحت، استطاع الميلودي أن يهندس بذكاء منحوتة فريدة لا زالت معروضة بإحدى ساحات المدينة، وهي تعبير لشكل يد تمسك حجارة، وهو تعبير من الفنان الميلودي عن انتفاضة أطفال الحجارة تكريما للمقاومة الفلسطينية في نهاية الثمانينات وبداية التسعينيات.
بالطبع الميلودي لم يكن يتصنع، ولا يدعي الإعلان على ذلك، فقط كان يختبر ذكاء المتلقي وفق هذا الشكل الراقي من التعبير الفني.
أما بالنسبة للميلودي الإنسان، فقد يستعصي الحديث عنه ومحاصرته في شهادة مختزلة لتجربة ومسار، لكن يكفي أن نقول أن نقط قوة الميلودي هي التواضع والالتزام والصدق في المشاعر وحب الإنسان، فيكفي أن نشير أن الميلودي، ونظرا لحبه وتعلقه بوالدته، أنه قرر بعد وفاتها توقيع وتدييل كل أعماله ولوحاته بتوقيعها هي نفسها إلى جانب اسمه...
وختاما، تكفي الإشارة، أن الميلودي لم يطمح قط إلى جاه، ولم يتهافت على منصب، ولم يستغل موقع أو علاقة. كانت له وصية ومطلب واحد ووحيد، هو أن يدفن في مدينته الصويرة قرب أبويه وفي نفس المقبرة.