الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

حسن مخافي: من أجل جامعة مغربية مندمجة في خطط التنمية

حسن مخافي: من أجل جامعة مغربية مندمجة في خطط التنمية حسن مخافي

تعرف النقابة الوطنية للتعليم العالي، هذه الأيام تعبئة شاملة عكستها حالة الطوارئ التي أعلنتها لجنتها الإدارية، منذ ما يزيد عن أربعة أشهر، والتي أبقت على اجتماعها مفتوحا لعدة مرات تأهبا للمفاجآت التي قد تأتي بها قرارات الوزارة الوصية تجاه المطالب العادلة للأساتذة الباحثين.

تنبغي الإشارة إلى أن النقابة الوطنية للتعليم العالي قد خاضت غمار حوار طويل وشاق مع الحكومة السابقة من أجل التوصل إلى أرضية مشتركة تحافظ على ما تبقى من الجامعة العمومية التي تتعرض لتآكل حقيقي جراء السياسات التعليمية الهوجاء التي اعتمدت منذ عقود، والتي أدت إلى ضمور الدور الريادي للجامعة بوصفها قاطرة للتنمية وإلى الإجهاز على القدرة الشرائية للأساتذة الباحثين الذين ظلت أجورهم مجمدة لأكثر من عشرين سنة، وتعرضت للقضم بفعل الاقتطاعات التي سنها غير المأسوف عليه رئيس الحكومة الأسبق.

إن إحدى مشكلات التعليم عامة وبخاصة التعليم العالي ببلادنا تتجلى في أن تطوره لا يسير وفق استراتيجية وطنية واضحة الأهداف والمعالم، وهذا ما يفسر أن كل مسؤول جديد عين على رأس هذا القطاع الحيوي يصر على القطع مع من سبقه والبدء من الصفر في عملية تسمى إصلاحا، وكأن قضية التعليم العالي قضية أشخاص وليست قضية شعب وبلد.

 حدث هذا مرات عدة، كانت أخرها التخلي بجرة قلم عن مشروع الباشلور الذي أنفقت للترويج له ملايين الدراهم، وعقدت لشرحه وتفسيره عشرات الندوات الوطنية والجهوية والمحلية، وعندما أصبح جاهزا للتطبيق تغير الوزير المسؤول عن التعليم العالي فتراجعت الحكومة عن المشروع برمته دون أن تقترح بديلا حقيقيا يحظى بمصداقية، ودون أن تكلف نفسها عناء تبرير هذا التراجع.

ما فعله وزير التعليم العالي الحالي بالباشلور فعله بالحوار مع النقابة الوطنية للتعليم العالي التي كانت على وشك التوصل إلى اتفاق شامل مع الحكومة السابقة، يلبي الحد الأدنى من مطالب الأساتذة الباحثين. ثم جاءت الإدارة الجديدة فردت عقارب الساعة إلى الوراء. وكان على النقابة أن تبدأ حوارا جديدا مع الحكومة الجديدة قد يستغرق مدة انتدابها، وقد تنطلق النقابة من الصفر في الحوار مع حكومة أخرى. وبهذه الطريقة يستمر هذا المسلسل العبثي الذي ينتهي ليبدأ ويبدأ دون أن ينتهي.

ولكن الأساتذة الباحثين استنفذوا بفعل هذا التلكؤ كل الوسائل لإسماع صوتهم هذه الأيام، وما فتئوا يدقون ناقوس الخطر جراء الحالة المأساوية التي آلت إليها أوضاع الجامعة، والتي أدت إلى بروز بعض الظواهر التي كانت إلى الأمس القريب غريبة عن الحرم الجامعي، وتجريد الجامعة من مكانتها الاجتماعية والثقافية والعلمية باعتبارها فضاء للمعرفة والتربية على احترام التعدد والإيمان بالاختلاف وفضيلة الحوار.

 وعندما يرفع نساء ورجال التعليم العالي أصواتهم احتجاجا، فإن السيل قد بلغ الزبى، لأن هذه الشريحة ممن ينتمون إلى الوظيفة العمومية قلما تخرج للاحتجاج، مما يدل على أن الحوار مع الوزارة الوصية أصبح يراود مكانه، وأنه لن يؤدي إلى نتيجة ملموسة.

ومن يتأمل أوضاع الجامعة المغربية اليوم يصل دون شك إلى أن المسألة لا تتعلق فقط بمطالب نقابية سبق أن توصلت بصددها النقابة مع الحكومة السابقة إلى حلول بقيت حبرا على ورق، بل إنها تطال كيان الجامعة في هويتها وفي رسالتها التي ظلت تقوم بها منذ الاستقلال إلى الآن.

 وعوض أن تعمل الحكومة الحالية على ترسيخ مبدأ الشراكة الذي جاء به الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وكرسته كل أدبيات الإصلاح الجامعي، اختارت الهروب إلى الأمام، بوضع إمكانيات الدولة تحت تصرف الجامعات الخاصة وتشجيع الرأسمال الأجنبي كي يستثمر في عقول المغاربة. ومن ثم فإنها قد انحازت إلى اختيار يزيد التعليم العالي تشتتا ويعرضه في سوق البيع والشراء الذي تكون الغلبة فيه لمن يدفع أكثر.

هذا يعني أن توحيد التعليم ومجانيته أصبحا من الماضي، مما يخلق جوا من انعدام الثقة في الجامعة المغربية العمومية، ويؤدي إلى خلل في تكافؤ الفرص بين المتعلمين. والأكثر من هذا وذاك أن هذا الاختيار يعمق الشرخ بين تعليم نخبوي" تتوفر له كل شروط النجاح، و"تعليم عمومي" توضع في وجهه كل العراقيل التي تحول دون أن يؤدي مهمته على الوجه الأكمل. من هنا وجد المغاربة أنفسهم أمام تعليم طبقي يتماشى مع سياسة الحكومة التي تقوم في مجملها على مبدأ إفقار الفقير وإغناء الغني.

هناك من يرى في هذا الموقف من خلق "جامعات خاصة" رأيا شاذا، لأن السياق الحالي لم يعد يتحمل هذه الغيرة الزائدة على الجامعة العمومية في ظل هيمنة المنطق الليبرالي على العالم. ولكن هذا الرأي يعتمد منطقا بسيطا ومعقولا، مفاده أن علينا أولا أن نؤهل الجامعة المغربية لتصمد في وجه الزحف الرأسمالي على التعليم العالي، مما يجعلها مستعدة لجو المنافسة الذي سيؤدي إليه فتح جامعات دولية. ولكي تتأهل الجامعة المغربية لتقوم بهذا الدور، عليها أن توفر للأستاذ والطالب معا نفس الشروط التي توفرها الجامعات الخاصة.

وواقع الجامعة المغربية اليوم يشير إلى أنها تعرف انتكاسة حقيقية على جميع المستويات، على الرغم من محاولات الإصلاح المتكررة. والسبب في ذلك راجع إلى أن محاولات إصلاح التعليم العالي ببلادنا لم تنبع من إرادة سياسية حقيقية تضع الجامعة في المكانة التي تستحقها باعتبارها رافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ومن ثم ظلت الحكومات المتعاقبة، تنظر إليها على أنها عبء مالي على الدولة. في حين أن كل إصلاح للتعليم العالي له كلفته المادية باعتباره استثمارا حقيقيا في العنصر البشري. ومن هنا بدا واضحا أن أي كلام يقوله وزير التعليم العالي حول تطوير الجامعة المغربية وتقدمها هو شعارات جوفاء، لأن الواقع لا يرتفع.

ومن المظاهر الصارخة لهذا الواقع أن رتبة مهنة التعليم العالي عرفت تقهقرا كبيرا خلال السنوات الأخيرة، بالمقارنة مع الوظائف المماثلة لها أو القريبة منها. وهذا راجع إلى أن سلم أجور الأساتذة الجامعيين لم يتحرك منذ أكثر حوالي عشرين سنة. وأن أجرة الأستاذ تعرضت للقضم بفعل الاقتطاعات المتكررة (صندوق التقاعد واقتطاعات التضامن وغيرهما). وأدى هذا إلى أن ما يتقاضاه أستاذ التعليم العالي اليوم، وقد وصل في ترقيته إلى أعلى السلم، يقل عما كان يتقاضاه منذ عشرين سنة بما يناهز ألف ومئاتي درهم تقريبا.

وإذا أضفنا إلى هذا تطور القدرة الشرائية والمسؤوليات الجديدة التي أصبحت منوطة بالأستاذ، بالإضافة إلى التدريس والتأطير والبحث العلمي، فإن عملية حسابية بسيطة تؤدي إلى أن الأجر الذي كان يتقاضاه منذ عشرين سنة، وبالنظر إلى ما سبق، يحتاج إلى أن يضاعف مرة واحدة على الأقل، كي يقوم بواجبه في ظروف جيدة.

إن هذه الوضعية الصعبة التي أصبح الأستاذ الباحث يعانيها أدت إلى ظاهرتين سلبيتين على مستوى هيئة التدريس: تتجلى الأولى في هجرة بعض الأساتذة إلى دول أخرى بحثا عن وضع أحسن، وعدم تشجيع الأساتذة المغاربة العاملين بالخارج على الالتحاق بالجامعة المغربية، وتتجلى الثانية في محاولة بعض الأساتذة البحث عن مدخول إضافي يحققون به توازنهم المالي، وذلك على حساب عملهم بالجامعة. ولا يخفى ما للظاهرتين السلبيتين من تأثير كبير على مردودية الأستاذ على مستوى التدريس والتأطير والبحث العلمي.

من أجل تدارك إرهاصات أزمة قادمة ستعرفها الجامعة العمومية على مستوى التأطير  في السنوات القادمة، فإن النقابة الوطنية للتعليم العالي تطالب منذ سنين بتسوية أوضاع بعض الفئات التي لحقها الحيف جراء الفهم المغرض لبعض المراسيم، مما حرمها من سنوات عديدة من الأقدمية، وبفعل التعسف الذي مارسته الإدارة في تفريغ أطر من حملة الدكتوراه الفرنسية في وضعية إدارية لا تناسب شهادتهم. وقد ظل هذان المطلبان دون حل لسنوات طوال، دون أن تعود الحقوق إلى أصحابها.

ولكن المطالب الكبرى للنقابة الوطنية للتعليم العالي تتمثل في مسألتين، باتا محل خلاف مع الوزارة الوصية: أولاهما الزيادة في الأجور بما يتناسب مع غلاء المعيشة وكلفة المهنة بما في ذلك اقتناء الكتب والمجلات العلمية والسفريات والتجهيزات... وثانيتهما إعادة النظر في النظام الأساسي للأساتذة الباحثين بما يراعي المسؤوليات والخدمات الجديدة التي تقع على عاتق الأستاذ الباحث.

وما فتئ هذان المطلبان يراوحان مكانهما منذ مدة طويلة. وقد كانت النقابة على وشك التوصل مع الحكومة السابقة إلى حل توافقي يخفف من حدة الاحتقان الذي تعرفه الأوساط الجامعية، إلا أنه يبدو أن الإدارة الحالية ربحا للوقت، أبت إلا أن تعيد عقرب المفاوضات إلى الصفر ليبدأ مسلسل آخر من التسويف والمماطلة.

وإذا عرفنا أن المسائل مترابطة في ما بينها، وأن مطالب الأساتذة ليست مادية صرف، بل إنها تروم الحفاظ على الجامعة العمومية باعتبارها مؤسسة وطنية غير قابلة للتفويت والتصرف، والعمل على الارتقاء بها لتلتحق بمصاف الجامعات الدولية الكبرى، وهذا ما يفرض الزيادة في ميزانية التعليم العالي، أدركنا عمق الأزمة التي تمر منها الجامعة العمومية.

لا يمكن أن يتحقق إصلاح الجامعة إلا بإدخال تعديلات عميقة على القانون المؤطر للتعليم العالي المعروف بالقانون 01.00 الذي أصبح متجاوزا، لأنه لم يعد يفي بالشروط التي يفرضها سياق العشرية الثالثة من القرن الواحد والعشرين.

إن هذا الترابط بين هذه العناصر كلها يبرهن على أن وضعية الجامعة المغربية لم تعد تقبل بالحلول الجزئية الترقيعية التي أبانت التجربة عن هشاشتها ومحدوديتها. ذلك أن إصلاح التعليم العالي بحاجة ماسة لكي يقف في وجه التحديات الحالية والمستقبلية، إلى إصلاح شمولي وجذري، يحافظ على هذا الصرح الوطني الذي يسمى جامعة، ويدمجه في مخططات التنمية التي تعرفها بلادنا. ولن يتم ذلك إلا بتمكين مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي من الوسائل التي تضمن لها القدرة على المنافسة، وتحصين الأستاذ الباحث من التفكير في الهجرة والبحث عن تحسين دخله من خارج مهنته، بأن يضمن له أجر يسمح له بمزاولة عمله بأريحية وكرامة. إذا لم يتوفر للأستاذ الباحث شرط العيش الكريم فإن الخشية كل الخشية أن نستيقظ ذات يوم ونجد أنفسنا أمام مؤسسات للتعليم العالي وقد هجرها العاملون بها.