الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

لحسن العسبي:إصرار النظام الجزائري على التوقيع على الخطأ

لحسن العسبي:إصرار النظام الجزائري على التوقيع على الخطأ لحسن العسبي
تأسيسا على يقين أن الرمزيات تكون دالة في مجال السياسة، كيف يمكن قراءة الإستعراض العسكري المُضَخم، احتفاء بالذكرى 60 لاستقلال الجزائر؟. الإستعراض العسكري الذي عاد بعد غياب دام أكثر من 35 سنة، لأن آخر استعراض نظم بمناسبة ذكرى استقلال جارنا الشرقي قد كان في نهاية الثمانينات (كانت الإستعراضات تلك عسكرية ومدنية، حيث تعبر فرق الجيش رفقة ممثلي التنظيمات الإجتماعية والجمعوية والمهنية على إسفلت ذات الطريق السياسية حينها لنظام الحزب الوحيد).
إن الرهان السياسي، على تلك الإحتفالية العسكرية بذلك الحجم والشكل، غايته توجيه رسالة واحدة كبرى أن شعار الحراك الشعبي الذي دام في شوارع كبريات المدن الجزائرية لشهور قبل جائحة كورونا، الذي ظل مرفوعا ينادي ب "دولة مدنية لا دولة عسكرية"، قد طويت صفحته. وأن شكل الإستعراض (الذي أزيل منه تقليد المشاركة المدنية)، وبعضا من الحضور الدولي الذي دعي للمشاركة في حفله العمومي، مغاربيا وفلسطينيا، ضمن صفقات سياسية بكلفة مالية، إنما الغاية منه توجيه رسالة أن النظام العسكري بالجزائري قد جدد دماءه عبر تعزيز "الدولة العسكرية" أكثر، بمناسبة الذكرى 60 للإستقلال. مع ما يصاحب ذلك من "هندقة" إعلامية داخلية وخارجية (كانت في القلب منها الصحافة الفرنسية بالأساس). أي أن الأمر كله في نهاية المطاف، إنما هو محاولة لترويج صورة جديدة للنظام، مضمونها الأكبر أن "التغيير هو اللاتغيير". دون إغفال إنتاج نخبة جزائرية جديدة، في مستويات تدبيرية تواصلية متعددة بالداخل الجزائري مؤسساتيا، أصبحت حاملة هذا التوجه المعزز للدولة العسكرية، المدافعة عنه والمبررة له.
واضح اليوم، أن خروج الجزائر من شرنقة أزمتها المركبة، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وقيميا، قد اختير أن يتم عبر تعزيز دور المؤسسة العسكرية في المجال السياسي، بغير قليل من الرعاية والدعم من قوى أروبية، ظلت تعتبر الجزائر عقدتها التاريخية ورهانها المتوسطي ضمن تجاذبات النظام العالمي الجديد لما بعد جائحة كورونا بشروط القرن 21. وأن بوابة ذلك الخروج يتم عبر محاولة بيع "صورة ترويجية" (image de marque)، تعتمد خطاب "الدور الإقليمي" مع توابل "الإستهداف الخارجي"، المغلف بغير قليل من ديماغوجيا "الدفاع عن المبدئي". وهي خطة سياسية ذات طموحات بعيدة المدى، تسعى إلى إعادة "صورة للجزائر" كرهان إقليمي ودولي، يهدد ب "الردع العسكري"، عبر اعتماد منهجية حكم تقوم على أساس إلباس كل الشرور بالمغرب، الذي يدرك أصحاب هذه الإستراتيجية أنه القوة الوازنة بالمنطقة التي لا يمكنهم لجم تطورها وصيرورة نموها.
مثلما أن خطة تلك ال "الصورة الترويجية"، قد اعتمدت محاولة استقطاب بعض الأصوات المعارضة الجزائرية بالداخل والخارج (من قبيل فتحها قنوات الإتصال مع من ظلت تعتبرهم أصوات مزعجة، داعية إلى نوع من "المصالحة الداخلية")، لتضمن للمشروع السياسي الجديد للنظام الحاكم بعقيدته المتجددة (الفرح باستعراض عضلاته العسكرية)، ما يمكن وصفه ب "شرعية شعبية ووطنية" جديدة. وهي خطة نجحت في تحقيق بعض الإختراقات الملموسة داخليا، تشكل مادة لترويج إعلامي خارجي مسنود على دعم سياسي إعلامي فرنسي واضح، ترجمانا لتوجه ضمن صانعي القرار السياسي بفرنسا تلخصه جملة قديمة للزعيم الإشتراكي الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران حين كان وزيرا للداخلية بباريس في الخمسينات، حين قال: "الجزائر هي فرنسا" (l’Algérie c’est la France ). نعم سياقات هذه الجملة حينها ليست هي سياقات اليوم، لكن ضمن النخبة الحاكمة في باريس لا تزال النظرة هي هي. وتكفي هنا العودة إلى كل خرجات الرئيس ماكرون، في ما يتعلق ب "المعضلة الجزائرية" (ضمن المخيال العام الفرنسي)، لليقين من ذلك.
هل هي صفقة جديدة بمنطقتنا قد بدأت تبرز ملامحها أكثر؟.
سيكون من العمى عدم تمحيص النظر في ذلك. وأيضا عدم إدراك "توازن الرعب" الذي يجري ترسيخه في منطقتنا الشمال إفريقية، بأدوات موروثة عن المرحلة الإستعمارية، بسبب خيار مهندسي سلطة القرار في الجزائر العاصمة، على اعتبار أن لا شئ ممكن في منطقتنا سوى بحسابهم الذاتي الخاص، حتى ولو كان على حساب حقوق شعوب المنطقة في الأمن والإستقرار والتنمية. قد يسميه البعض عنادا (بعضهم في الداخل الجزائري يعتقده "النيف")، لكن الحقيقة أنه ترجمة لجريمة تاريخية تمارس ضد حلم كل المغاربيين في أن يكونوا تجمعا جهويا قويا ضمن فضائهم المتوسطي والإفريقي والعربي.
واضح، أمام الشكل العام الترويجي للإستعراض العسكري بالجزائر العاصمة، أن التعقل يخون مجددا نخبة القرار السياسي بقصر المرادية، ويخشى أنها أمام أرواح شهداء التحرير ببلداننا المغاربية، إنما تنفذ أجندات قديمة، بوعي أو بدون وعي، لحسابات القرنين 19 و 20، ولا تملك فطنة التصالح مع منطق حسابات عالم القرن 21. وبذلك فهي تصر على التوقيع على الخطأ.