الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

في نقد الدراما المغربية..عبد المجيد طعام يفكك ضحالة خطاب الفقيه ياسين العمري

في نقد الدراما المغربية..عبد المجيد طعام يفكك ضحالة خطاب الفقيه ياسين العمري عبد المجيد طعام والفقيه ياسين العمري
1-الفقيه ياسين العمري وضحالة الخطاب الديني
النقد سلوك بشري تطور مع تطور الأنساق الفكرية الثقافية، وغالبا ما انقسم إلى نوعين: نقد ذاتي انطباعي ونقد موضوعي عقلاني، وفي كلا النوعين وجب أن يسبق فعل القراءة عملية النقد، فلا يجوز أن ننقد إنتاجا فكريا أو فنيا إلا بعد قراءته وتفكيكه.
 
هذه الأيام شهدت وسائل التواصل الاجتماعي حملة نقدية تحاول أن تقدم قراء لمسلسل تلفزيوني عنوانه " لمكتوب"، لم يقد الحملة نقاد السينما وإنما قادها مجموعة من الفقهاء.
 
كل النقاد الفقهاء خرجوا عن اختصاصهم واقتحموا مجالا يكنون له عداء كبيرا، هو مجال الفن والسينما خصوصا، ولأنهم لا يفهمون في ميكانيزمات العمل الدرامي فقد وجهوا أنظارهم إلى شخصية واحدة تحمل اسم " الشيخة حليمة "، ويمكن أن نعتبر الفقيه الشاب ياسين العمري من أشهر فقهاء يوتوبرز الذين طالبوا برأس هذه الشخصية في غياب ربطها بسياقها الدرامي.
 
وأنا أتابع ما قاله الفقيه العمري حول الشخصية وبعض نتف المسلسل لاحظت أنه وقع في مجموعة من المخالفات الشرعية والعقلية خاصة وأنه انطلق من خلفية دينية ثابتة (أنا استعمل الخلفية الدينية وليس الفكرية، لأن الفقيه لا يعتمد على الفكر وإنما على تأويل النصوص دون المساس في قدسيته الثابتة ).
 
فماهي هذه المخالفات الشرعية والعقلية التي سقط فيها الفقيه؟ وهل تعبر عن قصور في الرؤية أم هي مخالفات متعمدة؟ إذا كانت مخالفاته متعمدة لماذا تعمدها؟ ولماذا اعتمد على الشرع ولم يعتمد على الفن لنقد المسلسل التلفزيوني؟وكيف يجب أن تكون القراءة الموضوعية لمسلسل لمكتوب ؟ وكيف يجب أن ننظر إلى "الشيخة حليمة " داخل السياق الدرامي والاجتماعي والثقافي؟
 
يمكن أن نحدد المخالفات الشرعية والعقلية في ما يلي :
2- يبدأ الفقيه نقده للمسلسل وخاصة للشيخة اعتمادا على قاعدة معروفة عند الفقهاء وهي اعتماد الثنائية في التعامل مع العالم الحق /الباطل، أهل الحق /أهل الباطل، منذ البداية يوجهنا نحو الصراع بين الخير والشر مع تغييب الصراع: المستغِّل والمستغَّل ولتثبيت هذا الصراع في أذهاننا، يسعى منذ البداية إلى أن يمنح لنفسه الحق المطلق في الكلام، لأنه هو من يملك الحقيقة المطلقة ليصبح هو لسان حال السلطة الدينية، ويستصدر ترخيصا ربانيا ليحمل السلاح ويخوض معركة ضارية ضد الباطل:" العلماء - الفقهاء-ورثة الأنبياء " هم وحدهم من يملكون المعرفة المطلقة وهم وحدهم من لهم الحق في الكلام والنقد ومحاربة الباطل.
 
وهكذا يرى الفقيه أنه هو الممثل الوحيد للحق، بينما نحن سيدفعنا لنرى أنفسنا نمثل الباطل بما أننا نقبل على الخضوع " لكلاب الإعلام " وهي المسلسلات والأفلام والدراما وبعض البرامج، أمام هذه المفارقة لا يكون أمامنا حل آخر سوي طلب التوبة والمغفرة.
 
3- يخصص الفقيه حديثه عن مسلسل استقطب الكثير من المشاهدين وصلت نسبة المشاهدة لحلقة من حلقاته إلى عشرة ملايين مشاهد ، هو عدد مهول يقارب ثلث المغاربة، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن هناك مسلسلات وأفلام تستقطب الملايين الآخرين من المشاهدين ، سنصل إلى نتيجة مفادها أن كل المغاربة ضالون ، وكلهم وجب أن يتوبوا و يستغفروا وهكذا لن يبقى في الضفة الناجية إلا الفقيه الرباني ياسين العمري ، لأنه لا يشاهد المسلسلات الكلبية.
 
4-حين بدأ الفقيه يتحدث عن مسلسل "لمكتوب " تحاشى أن يذكر العنوان الأصلي " المكتوب" واستعمل قصدا لفظ " الشيخة " يقول مسلسل " الشيخة " على رغم من أن المسلسل لا يتتبع مسار الشيخة حليمة وإنما يطرح موضوعا آخر سنناقشه في حينه .
الغريب في الأمر أن الفقيه يقوم بقراءة المسلسل دون أن يشاهد ولو دقائق منه حسب ما صرح به، إذ يقول " حيث تنجيبوا الأخبار وخا منتفرجوش" فكيف سيتأتى له الحكم على شخصية من شخصيات المسلسل في غياب سياقها الدرامي ؟ ولعلنا هنا نقف على مخالفة شرعية جسيمة يقع فيها الفقيه جاء في سورة الحجرات الآية:"﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾.
 
الحكم الشرعي ينهانا على أن لا نحكم على أمر أو شخص من خلال الأخبار التي تصلنا، كما ينهانا على تجنب إصدار أي حكم في غياب اليقين ،وأهل البلاغة يعرفون الخبر بقولهم " كل ما يحتمل الصدق والكذب" وكأن الفقيه اعتمد على كليشيهات جاهزة في الحكم وليس القراءة.
 
إن ما قام به الفقيه العمري يذكرني بحادث اغتيال المفكر فرج فودة، حينما ألقي القبض على الإرهابي الذي اغتال المفكر سأله القاضي " لماذا قتلت فرج فودة " رد : " لأنه كافر" ثم سأله مرة أخرى :" وهل قرأت كتابا من كتب فرج فودة حتى كفرته؟" كان جوابه :" لا أعرف القراءة والكتابة " ثم سأله القاضي " وكيف عرفت أنه كافر ؟ " رد الإرهابي :" شيوخي قالوا بكفره ووجوب قتله، فقتله ".
 
هذا الإرهابي سمع خبرا من فم شيخه الذي لا ينطق عن الهوى، واعتبره هو الخبر الصحيح خاصة وأنه صدر عن شيوخ السلفية المتطرفين ، وقد قادت التحقيقات إلى اكتشاف تورط الشعراوي والغزالي في هذا الاغتيال الشنيع لأحد أهم المفكرين المتنورين في القرن الماضي. قضى الإرهابي مدة في السجن ثم أطلق سراحه فانضم إلى الإرهابيين الذين سفكوا دماء السوريين وقتل هناك.
 
أرى أن نفس ما حرك قاتل فرج فودة، حرك الفقيه العمري الذي أصدر حكما اعتمادا على الكليشيهات الجاهزة، وعلى ما يختزنه العقل الجمعي عن " الشيخة " دون أن يقوم بقراءة موضوعية للشخصية في سياقها الدرامي.
 
5- في مقابل عالم الشيخة المنبوذ في المجتمع وحتى في المسلسل (الشيخة حليمة تعيش وضعا صعبا داخل الحي ،كما ترفض ابنتها هند ما تقوم به والدتها) قلت في مقابل عالم الشيخة ، يقدم الفقيه عالما آخر، عالم مشرق استقاه من الحلم من برامج محو الأمية، ويحاول أن يخلق في المتابعين له نشوة الحلم المثالي.
 
وهكذا سيعيد صياغة الواقع وينتج آخر أفلاطوني، لا توجد فيه الشيخة، واقع الشيبانيات الحافظات للقرآن، وهن المتخرجات من مراكز محو الأمية.
 
عن طريق التقابل بين الواقعين: الشيخة / الشيبانيات ينشد الفقيه إلغاء الواقع الحقيقي، ليقدم لنا واقع المثال، الواقع الأفلاطوني ويذهب بعيدا حين يطالب السينما بأن تهتم بالواقع المثالي وتنقل إلى المشاهدين عالم الشيبانيات الحافظات للقرآن في مراكز محو الأمية وليس قضايا الواقع الموبوء، كيف ستكون المعالجة الدرامية لهذا العالم ؟ لا يخبرنا الفقيه، لأنه لا يملك تجربة ومعرفة سينمائية، من هنا نلمس موقف الفقيه من الفن عامة ورؤيته لوظيفة السينما ، فهو يرفض المعالجة الدرامية للواقع وينتظر من السينما أن تقدم لنا القدوات فقط ، في حين أن السينما هي رؤية فنية للواقع تدفع نحو إنضاج الوعي ، فحينما تقربنا من الواقع بعاهاته وإخفاقاته ، لا تسعى إلى وضعنا في حالة تطبيع مع الفساد ، ليس كذلك يا مولانا ، للفن وظيفة راقية ،علينا أن نعمل على تخليص الفن من التفاهة اعتمادا على رؤية نقدية علمية وعقلانية.
 
6-حينما نتتبع ما قاله العمري حول موضوع الشيخة نجده يعيش ضبابية الرؤية بين الواقع والمثال، فبعد أن قدم لنا صورة المثال التي اختزلها في الشيبانيات الحافظات للقرآن الموجودات في كل الأحياء، وصورة الشيخة التي ينفي وجودها في أحيائنا الشعبية المكتظة بالسكان والعاهات الاجتماعية، وإنما الشيخة حسب قوله هي صناعة إعلامية، يخرج بنا إلى الواقع ليقدمه لنا كما يراه هو يحاول أن يرصد مظاهره وخصوصياته، وجريا على سنة الفقهاء يقدم لنا صورة قاتمة للواقع، فكيف يرى مولانا هذا الواقع؟
 
لا أعرف كيف قام بعملية إحصاء ليخلص أن المؤمنين يمثلون أقلية في بلادنا ، الحافظون للقرآن أصبحوا يمثلون حالات نادرة ،وكأنه يوهمنا بأن الشيبانيات الموجودات في الأحياء الشعبية المكتظة هن الوحيدات الحافظات للذكر الحكيم ربما لولاهم لرفع القرآن ، وأظنه لا يعرف أن المغرب احتل المرتبة الأولى في العالم في عدد حفظة القرآن ،مولانا لا يرى هذا وإنما يرى أن مجتمعنا انتصرت فيه الدربوكة والبندير والكارطة والديعان في الشوارع والأزقة على الإيمان ، وبعينه المتأثرة بنظرته الفقهية السوداوية لا يرى إلا بضعة مؤمنين ومؤمنات يحملون بين أيديهم " الزربيات ديالهم" يهرولون إلى منازلهم بعد صلاة التراويح ،هذه الفئة حسب الفقيه تمثل قلة مقارنة مع رواد المقاهي ورواد الشوارع من البنات والنساء والرجال والشبان والأطفال.
 
حسب الفقيه المجتمع يتكون من مجموعتين متقابلتين، في جانب تصطف مجموعة الشيبانيات إلى جانب والمؤمنين والمؤمنات الحاملين "لزربياتهم" وهم عائدون من صلاة التراويح، في الجانب المقابل يصطف رواد المقاهي والشوارع وهي الأكثرية، وليمنح مصداقية لرؤيته الاجتماعية، يحكي لنا الفقيه حكاية خروجه من منزله بعد منتصف الليل ليرمي القمامة، ونعرف أن بجانب سكناه تتواجد حديقة كانت غاصة بالنساء والشابات والشباب والرجال والأطفال، كانو يحملون التعارج ولبنادر، يثيرون ضجة بغنائهم وضوضائهم.
 
بعد أن تتبعت منطق مولانا، شق علي الفهم ولم أعد أعرف هل نحن مجتمع فاسد أم مجتمع صالح؟ في بداية حديثة وقبل أن يقطع رأس الشيخة، قدم لنا صورة جميلة أفلاطونية عن المجتمع، صورة الشيبنيات الحافظات للقرآن الموجودات في كل الأحياء، ثم قدم لنا صورة معكوسة، صورة جد قاتمة، مجتمع فاسد، فلماذا وضع رأس الشيخة على المقصلة؟ هل الشيخة هي التي أفسدت المجتمع؟ أم المجتمع فاسد قبل أن توجد الشيخة؟ فإذا كان المجتمع فاسد كيف نغيره؟
 
6-لا يملك مولانا أية وصفة للتغيير لأنه لا يملك أي تصور، خلفيته الدينية الثابتة لا تؤهله إلى ذلك، ورؤيته للواقع متأثرة بمرجعيته الدينية التي ظلت مستقرة طيلة قرون طويلة، لم تتغير آليات التعامل مع الواقع، لم تتأثر بمتغيرات الواقع، ما قاله مولانا عن الشيخة هو نفس ما قالته الكنيسة عن الساحرة في القرون الوسطى، المرأة هي مصدر كل الشرور وهذا ما قال به ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، كلهم أدانوا الواقع ليحافظوا على سلطة امتلاك المعرفة المطلقة .
لم يقدم مولانا أي بديل موضوعي ملموس، انتقد الشيخة وقدم بديلا " الشيبانيات الحافظات للقرآن "، أنتقد رواد المقاهي ورواد الشوارع وقدم بديلا اختزله في المصلين الذين يؤدون صلاة التراويح ويعودون بسرعة إلى منازلهم.
 
لم يقدم مولانا مالك المعرفة المطلقة وصفة الانتقال من الوضع الفاسد إلى الوضع الصالح؟ لا يملك الفقيه أي حل لأنه يعيش خارج الزمن والسياق والواقع، يسبح في الخيال والمثالية الغارقة في الآفلاطونية .
يحاول الفقيه أن يلامس الواقع ليس لتغييره وإنما لتغييبه وإقصائه يقترب من الواقع وهو ينصب المقصلة ليقطع الرؤوس، بدأ برأس الشيخة، ثم انتقل إلى رؤوس غالبية أفراد المجتمع ، لم يثر الفقيه قضية المدرسة العمومية وانهيارها ، لم يثر ارتفاع نسبة الفقر، لم يثر هيمنة النظام على الإعلام لم، يثر قضية ارتفاع نسبة البطالة، لم يثر قضية ارتفاع الأسعار، لم يحمل الحكومات المتعاقبة مسؤولية ما يقع ، لم يحمل المسؤولية لحكومة الإسلاميين التي قضت على صندوق المقاصة وحررت أسعار المحروقات ،لم ينتقد هذه الحكومة التي عطلت انتظارات الطبقات الهشة ، لم يتحدث عن الجهل والأمية والخرافة ،لم يتحدث عن برامج محو الأمية التي معنى لها بصيغتها الحالية، لم يتكلم عن أسباب المشكل وإنما أراد فقط أن يقطع رأس شيخة المسلسل التلفزيوني ، وعندما قطع رأسها وخرج إلى المجتمع وجد ما لا يرضيه ،فأراد أن يقطع كل الرؤوس لكنه لا يريد أن يعترف أن المجتمع استأنس بالتفاهة التي يساهم فيها كل تجار الدين، وعوض أن يقدم رؤية للتغيير وعوض أن يساهم في إنضاج الوعي، ضخ في متابعيه جرعة أخرى من التفاهة.
 
في الجزء القادم سيكون لنا لقاء مع مسلسل لمكتوب قراء نقدية
الواقع المغيب في الدراما المغربية