زيارة رسمية يمكن توصيفها بالتاريخية لرئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشير للمغرب، بدعوة كريمة من جلالة الملك محمد السادس، وضعت حدا لحالة التوتر التي طبعت العلاقات الدبلوماسية بين الرباط ومدريد منذ تفجر فضيحة محمد بن بطوش، وأسست لبداية عهد جديد بين البلدين الجارين، عقب خروج مدريد من المنطقة الرمادية بخصوص قضية الوحدة الترابية للمملكة وإعلانها غير المسبوق عن موقف إيجابي بخصوص مغربية الصحراء ومقترح الحكم الذاتي، وهو الموقف الذي ظلت الرباط تترقبه منذ سنوات وخاصة منذ الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء.
عهد جديد إذن بين الرباط ومدريد، حضرت خارطة طريقه فيما تم الإعلان عنه في سياق هذه الزيارة من "إعلان مشترك" جددت من خلاله إسبانيا في شخص رئيس حكومتها الاعتراف بأهمية قضية الصحراء بالنسبة للمغرب، وباعتبار "المبادرة المغربية للحكم الذاتي التي قدمها المغرب سنة 2007 هي الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية لحل هذا النزاع"، وهذا المتغير الدبلوماسي الإسباني، ينسجم وروح خطاب ذكرى 20 غشت 2021، ويساير مواقف الكثير من الدول التي جنحت إلى طريق المسؤولية والوضوح والمصداقية في علاقاتها مع المغرب، بالإقرار بمغربية الصحراء وتزكية مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب لحل النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، ويواكب ما حققه المغرب من مكاسب دبلوماسية، منذ الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، وبين هذا وذاك، هو متغير ينتصر للحقيقية التاريخية والقانونية والشرعية بما أن إسبانيا هي المستعمر السابق للصحراء، كما ينتصر للغة المصالح المشتركة التي لابد أن تسمو فوق كل الاعتبارات.
عهد جديد من شأنه أن يقطع مع ما تخلل مسار العلاقات المغربية الإسبانية طيلة عقود من الزمن، من مشاهد الأنانية والاستعلاء والاستفزاز خاصة من الجانب الإسباني، وسيؤسس لمستقبل جديد من العلاقات الثنائية مبني على "معالجة المواضيع ذات الاهتمام المشترك بروح من الثقة والتشاور، بعيدا عن الأعمال الأحادية أو الأمر الواقع"، وفي هذ الإطار إذا كانت هذه الالتزامات المتبادلة حاملة لبصمات الوجه الجديد للدبلوماسية المغربية التي لم تعد تقبل بسياسة "ازدواجية المواقف" وما يرتبط بها من ممارسات الاستعلاء والابتزاز والاستفزاز، فهي رسالة تعكس أن الإسبان استفادوا جيدا - على ما يبدو- من درس "محمد بن بطوش" وتحملوا ما أشهره المغرب من خيارات، أضرت كثيرا بالاقتصاد الإسباني سواء تعلق الأمر بإغلاق المعبرين الحدوديين أو باستثناء الموانئ الإسبانية من عملية مرحبا 2021، دون إغفال إشهار الرباط لورقة الهجرة السرية، كما تعكس أن الساسة الإسبان، لم يعودوا ينظرون إلى الجارة الشرقية بمنظور الثقة والمصداقية والمسؤولية، بعد القرار الأحادي الجانب الذي أوقف العمل بأنبوب الغاز المار نحو إسبانيا عبر الأراضي المغربية.
ولوضع حد لما ترتب عن فضيحة محمد بن بطوش من قرارات مغربية أوقفت حركية مرور الأشخاص والبضائع بين البلدين الجارين، سيتم "الاستئناف الكامل للحركة العادية للأفراد والبضائع بشكل منظم، بما فيها الترتيبات المناسبة للمراقبة الجمركية وللأشخاص على المستوى البري والبحري"، كما سيتم "إعادة الربط البحري للمسافرين بين البلدين، حالا وبشكل متدرج إلى حين فتح مجموع الرحلات" مع "إطلاق الاستعدادات لعملية مرحبا 2022"، وهذه الحركية الجديدة، لايمكن إلا أن تعود بالنفع العميم، وتنعش بل وتنقد الكثير من القطاعات خاصة ذات الصلة بالنقل البحري واللوجستيك والموانئ والفنادق والمطاعم التي تضررت كثيرا في ظل ما وصلت إليه العلاقات الدبلوماسية المغربية الإسبانية من برودة غير مسبوقة.
وإذا كانت هذه الإجراءات تكتسي طابع الاستعجال بالنظر إلى قرب عملية مرحبا 2022، فإن الطموح المغربي الإسباني يمضي قدما في اتجاه "إعادة تفعيل التعاون القطاعي في جميع المجالات ذات الاهتمام المشترك، من بينها الاقتصادي والتجاري والطاقي والصناعي والثقافي"، بل وستكون عملية "تسهيل المبادلات الاقتصادية والمواصلات بين البلدين موضوع اجتماع سيُعقد قريبا"، والرهان على الجوانب الاقتصادية والطاقية والصناعية والثقافية، هو رهان على المستقبل في إطار رؤية متبصرة عابرة للحكومات، ترمي إلى تمتين الترابطات الاقتصادية والتجارية والمالية والثقافية بين البلدين، وهذا معناه أن مدريد اقتنعت أكثر من أي وقت مضى، أن مصلحتها الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية مع دولة جارة مسؤولة ذات مصداقية وتاريخ عريق، تنعم بما يلزم من الأمن والاستقرار والطمأنينة، بل وذات ثقل اقتصادي واعد، يؤهلها لتلعب دور الوساطة بين أوربا والأسواق الإفريقية الواعدة التي بات فيها المغرب لاعبا قويا ومؤثرا فيها.
عهد جديد، سيطلق العنان لمقاربة القضايا الشائكة بين البلدين والتي تقتضي جرعات كبيرة من الثقة والحوار والمسؤولية والمصداقية ونكران الذات، وفي هذا الإطار سيتم "تفعيل مجموعة العمل الخاصة بتحديد المجال البحري على الواجهة الأطلسية، بهدف تحقيق تقدم ملموس" كما سيتم "إطلاق مباحثات حول تدبير المجالات الجوية"، وبما أن معضلة الهجرة تشكل إحدى التحديات الأمنية التي تواجه البلدين، ستتم " إعادة إطلاق وتعزيز التعاون في مجال الهجرة"، وفي هذا الصدد "سيجتمع الفريق الدائم المغربي الإسباني حول الهجرة قريبا" في أفق تبني "مقاربة شاملة ومتوازنة لظاهرة الهجرة".
وبما أن هذا العهد الجديد ستطبعه المسؤولية والثقة والتشاور، لامناص من فتح الرباط للملفات الأشد تعقيدا وحساسية بالنسبة للإسبان، ونخص بالذكر ملف الجزر المغربية المحتلة التي تجاور السواحل المغربية الشمالية، بما فيها ملف المدينتين السليبتين "سبتة " و"مليلية"، وبما أن "الإعلان المشترك" بين البلدين لم يتناول هكذا ملفات، نرى أن المناخ الإيجابي السائد، يمنح الإمكانية لفتح هذه الملفات لارتباطاتها الوثيقة بالسيادة المغربية التي يثبتها التاريخ وتؤكدها الجغرافيا، خاصة وأن الرباط ومدريد ستتجهان إلى "التواصل حول تحيين معاهدة حسن الجوار والصداقة والتعاون لسنة 1991، على أساس المبادئ والمحددات والأولويات التي ستوجه العلاقات الثنائية في السنوات المقبلة"، وإذا كنا نتفق أن "مغرب اليوم ليس كمغرب الأمس"، فهذا المغرب الجديد، لن يقبل بالمطلق، أن تظل الجارة إسبانيا محتلة لجزر تبتعد بأمتار قليلة عن السواحل المغربية، بكل ما يعنيه ذلك من مساس بالسيادة ومن استفزاز ناعم.
وبموازاة مع رهاناته على مد وتمتين جسور التواصل الاقتصادي والتجاري والمالي بين الرباط ومدريد، سيكون لقضايا التربية والتكوين والثقافة مكان في ظل العهد الجديد، وفي هذا الإطار سيتم " إحداث فريق عمل متخصص" لتعزيز آليات التعاون في مجال التربية والتكوين المهني والتعليم العالي"، كما سيتم تعزيز التعاون الثقافي عبر "إحداث فريق عمل قطاعي في مجال الثقافة والرياضة" و"إعطاء دفعة جديدة لمجلس إدارة مؤسسة الثقافات الثلاث".
وتنزيلا وأجرأة لهذه الالتزامات والتعهدات وغيرها، سيتم "رفع تقارير أنشطة الاجتماعات وفرق العمل المحُدثة أو المُفعّلة للاجتماع رفيع المستوى"، بل و"سيقوم صاحب الجلالة الملك محمد السادس ورئيس الحكومة الإسبانية السيد بيدرو سانشيز بتعيين لجنة مكلفة بالسهر على تنفيذ هذا البيان المشترك، في أجل 3 أشهر"، وهذا معناه أن البلدين الجارين تحدوهما إرادة مشتركة للانخراط بشكل لا رجعة فيه في عهد جديد قوامه الثقة والمسؤولية والالتزام والمصداقية والتشاور، يقطع مع زمن المراوغة والابتزاز والاستفزاز من الجانب الإسباني، ويؤسس لمجال مغربي إسباني آمن ومستقر ومتعاون ومتسامح، يتحقق فيه الرخاء والسعادة والازدهـار، في سياق جيوسياسي إقليمي ودولي، يطرح تحديات متعددة الزوايا، تفرض الجنوح إلى أدوات الأمن والوحدة والاستقرار والتعاون في إطار قاعدة "رابح رابح".
هو إذن نجاح دبلوماسي جديد وازن تجنيه الدبلوماسية المغربية تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس، من منطلق أن إسبانيا الأكثر معرفة من غيرها بملف الصحراء المغربية باعتبارها دولة مستعمرة، وهذا النجاح ينضاف إلى الاعتراف الأمريكي غير المسبوق بمغربية الصحراء وما تلاه من زخم دبلوماسي كرس المغرب "قوة إقليمية صاعدة"، وهذا الوضع "المحسود عليه"، يفرض الرهان على "جبهة داخلية" متجانسة ومتماسكة، وعلى مؤسسات وطنية قوية "مواطنة" و"ذات مسؤولية" قادرة ليس فقط على الترافع عن قضايا الوطن في الخارج، بل والإنصات إلى نبض الشعب والمضي قدما في اتجاه إنتاج سياسات عمومية ناجعة قادرة على محو الفقر والبؤس الاجتماعي والتأسيس لمجتمع المساواة والعدالة السوسيومجالية في إطار دولة الحق والقانون، وعلى الرهان على الإعلام المغربي "المهني" و"المواطن" المهاجر، ليكون جبهة متقدمة في معركة الدفاع عن مصالح الوطن وقضاياه المصيرية والاستراتيجية.