الأربعاء 24 إبريل 2024
ضيف

عبد الحي بنيس: في حضرة "عقل" البرلمان المغربي

عبد الحي بنيس: في حضرة "عقل" البرلمان المغربي

«لم يكن همي الاصطفاف في صف الانتهازيين والوصوليين.. قمت بما يمليه علي ضميري، وفق ما رباني عليه والداي رحمهما الله، وثلة من مخلصي هذا البلد.. تفانيت في العمل، وأديته بإخلاص...». هي لازمة ومبدأ ونهج سيرة في حياة ومسار عبد الحي بنيس، منحوتة في فكره، مسطورة «بخط اليد» في أوراقه، في ثنايا مذكراته، التي يعكف على تدوينها وتجميعها، كي يخرجها إلى القراء والرأي العام في المستقبل من الأيام، في صورة كتاب اختار له كعنوان «مذكرات شاوش بالبرلمان»...

 

إعداد: بوعمرو العسراوي

 

بنيس هو نفسه عنوان بمرجعيته ومنتوجه وذاكرته.. جالسته «الوطن الآن» في سفر ممتع في بيته بالرباط، وهو محاط بمكنوناته وجواهره، التي كان يتطلع في أن يقدمها يوما بين يدي الملك محمد السادس، وهي التي تتحدث عنه وعن نفسها في الداخل والخارج (واحدة من أوراقه ترجمت إلى الألمانية، وتوصل إثرها برسالة شكر وتنويه من هناك)...

وأنت تجالس عبد الحي بنيس وتقترب منه، تكتشف رجلا من طينة نادرة ومعدن فريد.. مسار متيقظ.. مسار الإنسان وزخم التجربة، وغزارة العطاء المعرفي.. وهو الذي اشتغل لأزيد من أربعة وثلاثين سنة داخل قبة البرلمان المغربي، قبل أن يحال على التقاعد (يوم 31 دجنبر 2012)... إنسان عرف مثل الغيمة تتنزل مدرارا وتنفث الخير العميم. لقبه البعض «ذاكرة البرلمان»، وآخرون بـ «جامع الدرر»، نظرا للكم الغني من المؤلفات التي جمعها وعدلها، ثم نفخ فيها من روحه لتبقى بين الرفوف حية لا تموت...

عبد الحي بنيس هو سابع إخوته الـ (17، ازداد سنة 1952 في عهد الحماية بفاس).. قدر له أن يقضي طفولته الأولى، حتى سن العاشرة، لدى أسرة تنحدر من تافيلالت طالبت بتبنيه، حيث لاقى لديها تلاوين شحنات العطف والحنان وأصول التربية. غير أن شغب الطفولة وتمردها سكنه أيضا مثل باقي الأطفال في سنه، فعاش تلاوين التمرد والمغامرة والتسكع في دروب الأسواق والأزقة، والهروب من حصة الدرس بالمدرسة... يتذكر عبد الحي بنيس أيام «لمسيد» ودروس القرآن والنحو والفلقة، والجلوس فوق الحصير الخشن، الذي كان يجمد الدم في المفاصل والعروق.. مدرسة اللمطيين بباب العامر، وقامة المدير السي بنجبور، وثلة أصدقاء «مدرسة المشاغبين». ويعترف بنيس أن ضعف نقطه في نتائج المدرسة، وما يترتب عنها من مخافة العقاب من طرف الأبوين، زاد في نفوره من المدراسة، واستهوته فضاءات جنان السبيل وأسواق الصباغين والحدادين ودروب المدينة العتيقة... 1962 سيعود الطفل عبد الحي إلى حضن أسرته الأصلية، ويعود معها ثانية إلى مقعد الدرس، في مستوى «الرابع ابتدائي»، بمدرسة جنجور، ثم باب ريافة. وحدث أن كان هذه المرة في طليعة التلامذة المتفوقين في آخر السنة، فنال جائزة من إدارة المؤسسة، تتمثل في الذهاب إلى «المخيم فابور» خلال العطلة، وهو ما رفضة الأب الذي كان يدير ورشة في الخرازة..

كان الوالد يحكي، يقول عبد الحي بنيس، ومعه باقي الصناع، عن النضال والبطولة بشغف كبير، عن محمد الزرقطوني، علال بن عبد الله وباقي الرموز.. بدأت تسكن الطفل عبد الحي وقتها مسارب وسفرالحكايات، ومعها «أرض الله الواسعة» في فاس تلك الفترة، عوضا عن طريق المدرسة، فآثر عليه السفر في الأرحب... فاتجه وهو ابن الثالثة عشرة إلى «جنون المسرح» رفقة «التوحيد الفني»، التي أسسها أخوه كمال بنيس.. «قدمنا عروضا في مقر حزب الاستقلال، و أمام الزعيم علال الفاسي، وفي المدارس والمناسبات.. مر في الفرقة أيضا عبد الحق الزروالي، والصحافي محمد الأشهب والإذاعي عبد اللطيف بوعياد وآخرون. وقدمنا عروضا في التلفزيون...». وحدث أن استدعي بنيس إلى المشاركة في مهرجان المسرح للهواة بالجديدة، وأثناء العودة عرج على البيضاء فشدته ليمكث بها، قبل أن تقوده 850 درهم، كانت دينا له في ذمة صديق بالرباط، جاء ليحصلها. كان ذلك في ماي 1975، يتذكر بنيس جيدا، وكانت سببا في بقائه إلى اليوم في العاصمة الرباط، ونحت مسارا مهنيا جديدا بكثير من التوهج، بعد أن حصل على شغل بالبرلمان ويلتحق للعمل به كعون خدمة (في 14 أكتوبر1977)، التحق بنيس بداية في إدارة شؤون فريق حزب الاستقلال للوحدة والتعادلية (اشتغل بعدها في ديوان رئيس البرلمان) داخل قبة التشريع. يسترجع أول يوم بتفاصيله، يقول: «هجرني النوم تلك اللية، وأنا أنتظر بزوغ الصبح للتوجه نحو مهمتي الجديدة. أسئلة عدة كانت تخطر بمفكرتي، عن العمل مع «الناس لكبار»، وعن ماذا سأفعل؟ وكيف سأفعل، وكيف سأكون في المستوى وعند حسن الظن.. وسيل جارف من الأسئلة الأخرى.. ولجت بوابة البرلمان كأنني أدخل فضاء ضريح مولاي ادريس. كانت لحظة رهيبة.. كان اسم البرلمان يجلجل تلك الفترة في الأسماع..».

ويستطرد عبد الحي بنيس، وشعور خاص يلفه.. «كنا مجموعة صغيرة من أربعة موظفين، كاتبة ومحرر، ورئيس مصلحة وشاوش هو أنا.. كانت المرحومة عفيفة الشرقاوي، ورئيس المصلحة عمر الشريفي.. كل فريق من الفرق الأربعة، المعارضة الاتحادية، الفريق الاستقلالي، الأحرار والحركة الشعبية، له أربعة موظفين في مصلحة الفريق..».

يتذكر بنيس أسماء بعينها جاورته تلك الفترة في محيط اشتغاله بالبرلمان، أحمد الريح (رئيس المصلحة) وأحمد بنجلون (أخ عمر بنجلون)، المقاوم شجار.. ويسرد شخصات سمت مساره المهني وشخصه كذلك، الأستاذ عبد الكريم غلاب، عبد الواحد الراضي، امحمد بوستة، محمد الدويري، محمد الوفا (وزير التعليم الحالي)، عبد الحق بناني، عبد الحميد الفاسي، سعد العلمي، ادريس عبدو المراكشي على سبيل المثال لا الحصر.. يتذكر طول بعض الجلسات في اللجن مثل التعليم والصحة، التي كانت تستمر أحيانا حتى الساعات الأولى من الفجر، بسبب قوة وعدد المتدخلين..

ويتذكر أحداث مائزة بقيت موشومة في ذاكرته وأيضا طرائف..، «كنت مثل فراشة تطير وأنا أهيئ مهمتي داخل مكتب الفريق. وضعت بداية دفتر الواردات والصادرات، وبدأت أهيئ مداخلات أعضاء الفريق، وأوثق كل شيء وقع بين يدي، ومنه تفتفقت موهبتي في التوثيق إلى يومنا هذا...».

غادر عبد الحي بنيس، مؤخرا، شغله بالبرلمان، بعد أن بلغ سن التقاعد، وبعد أن أدى «لازمته ومبدأه في الحياة» بإخلاص مشهود له به في أكثر من صعيد.. عبد الحي بنيس هو اليوم بين بيته ودروب المدينة العتيقة (حي لكزا) في العاصمة، في سفر مستمر بين دفات الكتب والمراجع، بين كنوزه ودرره.. منكب على استرجاع وتدوين سيرته الذاتية ومذكراته، ومازال في جعبته المزيد من العطاء...

 

جواهر عبد الحي بنيس

بلغ صدى مؤلفات عبد الحي بنيس جامعات «هارفارد وأوكسفورد»، ومدارج المكتبات والجامعات هنا بالمغرب، حتى باتت نبراسا ودليلا للدارسين والباحثين، من المهتمين بحياة المؤسسة التشريعية. من مؤلفاته نسرد «الموسوعة البرلمانية»، «المسار البرلماني، من النشأة إلى الانتقال الديمقراطي»، «البرلمان في اجتهاد القضاء الدستوري»، «البرلمان والحكومة، الذاكرة والتاريخ»، «الأداء البرلماني للزعيم علال الفاسي 1963-1965»، «اليهود المغاربة في المنظومة القانونية 1913-2007»، «أطيب الأحاجي والأمثال من أفواه النساء والرجال»، وهو كتاب يضم 12 ألف مثل شعبي، ومؤلف «أروع الحكايات من أفواه الجدات»، وكتاب «أقوى اللحظات التاريخية بالمغرب 1900-2010»، وكتاب يضم 6782 نصا تتعلق بمدينة فاس، و«المرأة في الخطب الملكية والبرامج الحكومية وبرامج الأحزاب السياسية».

وحاليا يستعد لإصدار كتاب حول «التحولات الإصلاحية بالمغرب في ظل الربيع العربي»، حيث يجمع فيه نصوص ومبادرات وكرونولوجيا الأحداث، بدءا من 20 فبراير إلى حين تنصيب حكومة بنكيران.

 

 

بين رؤساء البرلمان ورؤساء الفريق

جاور عبد الحي بنيس في مساره المهني بالبرلمان، على مستوى رؤساء القبة التشريعية، كل من الداي ولد سيدي بابا، أحمد عصمان (الأمين العام السابق لحزب التجمع الوطني للأحرار)، جلال السعيد، وعبد الواحد الراضي (الاتحاد الاشتراكي)، في تجربة حكومة التناوب بزعامة عبد الرحمان اليوسفي، مصطفى المنصوري (الأحرار)، ثم عبد الواحد الراضي من جديد، وكريم غلاب (حزب الاستقلال) الرئيس الحالي للبرلمان، الذي بقي عبد الحي بنيس يشتغل في ديوانه (ديوان رئاسة البرلمان) إلى حين إحالته على التقاعد، في 31 ديسمبر 2012.. كما جاور إلى ذلك من رؤساء الفريق في حزب الاستقلال، كل من الأستاذ عبد الكريم غلاب، فيصل الخطيب، محمد العربي المساري، امحمد الخليفة، قبل أن ينتقل إلى الاشتغال في رئاسة المجلس التشريعي.

 

في رحاب البرلمان: طرائف وأحداث

من أهم الأحداث في حياة البرلمان، التي بقيت عالقة في ذاكرة عبد الحي بنيس، ملتمس الرقابة سنة 1990، وحالة الاستناء، وقرار الاتحاديين رفض تمديد ولاية برلمان 1977، إثر خطاب للراحل الحسن الثاني في سنة 1981. يقول بنيس: «تعرض البرلمانيون الاتحاديون لضغوط كبيرة وللتهديد ودعوتهم للانسحاب، وتدخل الحسن الثاني على الخط، فقرر بعضهم البقاء والتحدث بصفته الشخصية، ليس كممثلين لحزبهم.

وبسبب الفراغ الذي أحدثه موقف الاتحاديين قررت الدولة تقسيم حزب التجمع الوطني للأحرار إلى قسمين، حزب الأحرار للعب دور المعارضة، والحزب الديمقراطي برئاسة أرسلان الجديدي يشارك في الحكومة...»، و«حالات الاستثناء» والجلبة، التي كان يعرفها مجلس النواب عندما كان يحضر وزير الداخلية الراحل إدريس البصري للمجلس مرفقا بحاشيته، الذين يتسابقون للدخول معه في مصعد المجلس ويمنعون عنه الموظفين من السلام عليه، أوتسليمه طلبات الحصول على «كريمات»، أو من أجل التدخل لتشغيل بعض من معارفهم. وفعلا فقد استفاد كثير من هؤلاء...

يحكي أيضا كيف التف ادريس البصري بدهائه، كعادته، على طلب للمعارضة في جلسة بالبرلمان، بعد تدخل النائب محمد الوفا، بحق الرد على مرافعات وزراء الحكومة، من خلال لائحة تضم أزيد من 15 متدخل من النواب، وهو ما لم يستصغه البصري، فكان أن سرب، في فورة الجدال، ورقة صغيرة رفقة مخزني إلى علي يعته، يدعوه فيها لتوقيف هذه المهزلة، فقام علي يعتة بتناول الكلمة، وتمكن من خفض درجة التوتر من خلال طلب السماح بتدخل 4 أو 5 نواب، وهوماحصل..

ومن الطرائف يسرد بنيس تفاصيل لحظة خلاف حاد بين رئيس البرلمان الداي ولد سيدي بابا وخلي هنا ولد الرشيد، عن حزب أرسلان الجديدي، حيث انتفض ولد الرشيد في غضب وصفع الداي ولد سيدي بابا بقوة على وجهه، حتى طارت ساعته من يده، فذهب الداي يشتكي ولد الرشيد عند الحسن الثاني.. كما يسترجع طريفة نائب عن حزب الأحرار تعود وضع حذائه جانبا، وهو يجلس على الكرسي داخل قاعة البرلمان، فأخفاه عنه واحد من أصدقائه النواب، وحين جاء دوره في تناول الكلمة بالمنصة وجد نفسه حافي القدمين، وكان أصدقاؤه غارقين في موجة من الضحك، وهو في ورطته.. وطريفة النائب الذي وضع له صديق له، في غفلة منه، ملفا بنفس اللون، فارغا أمامه عوضا عن ملفه، وحين أراد إلقاء كلمته على المنصة، وجد نفسه أمام البياض...