الجمعة 19 إبريل 2024
منبر أنفاس

عبد الله أطويل: من السلطة الرابعة إلى السخافة

عبد الله أطويل: من السلطة الرابعة إلى السخافة عبد الله أطويل

سمعنا عن وصفها بالسلطة الرابعة، قيل عنها "صاحبة الجلالة". أما أصحاب التخصص وأهلها والعاملين فيها والمؤلفة قلوبهم عليها وخاصتهم، فنعتوها سابقا بمهنة المتاعب. وربما استحقت هذا النعت، كيف لا يكون ذلك ونحن نستحضر مقولة لنابليون بونابارت حين قال عن الصحافة، "أخشى ثلاث جرائد أكثر من خشيتي مئة حربة. من عاش أو عايش الربع الأخير من القرن الماضي وهو مازال بين طهرانينا حي يرزق أو لا يرزق، لم يكن في يوم من أيامه تخيل أن تتهاوى مهنة الصحافة في مستنقع السخافة والزندقة، وتصبح في يوم من الأيام مهنة من لا مهنة له، بل حرفة أفرغها المسترزقون من محتواها النبيل، ليزجو بها في غياهب الانحطاط.

 

ارتقت الصحافة في بلدان عدة إلى مستوى السلطة الأولى، حين راقبت واستقصت وتحققت والتزمت بالرسالة والمهنية، فكانت الصحافة الاستقصائية -صحافة التحقيق- تحرك المياه الراكضة، وتصرف الممنوع من الصرف، تتبع خيوط الكبة حتى تصل لعش الدبابير في الملفات الكبرى فتأتي بالمبتدأ وخبره. منها من كان حاسما في تقييم وتقويم أنظمة عدة. إذاك لعبت دورها الأساسي في التثقيف وتنوير الرأي العام، وتهذيب السلوك، تربويا ورقابيا.

 

أما اليوم فتجردت من المهنية ونبل رسالتها، وتاهت تجري خلف ربح يأتي من "بوز" الفضائح والفرجة على مآسي الناس. لا تستغرب إن صادفت جزارا أو خياطا او حتى صباغا يتوفر على بطاقة صحافة من هذا الموقع أو ذاك، مع كامل احترامنا وإجلالنا لهذه المهن الشريفة التي ينأى أصحابها عن طرق مشبوهة للاسترزاق وبيع الضمير بالتقسيط. بالأمس القريب كانت "صاحبة الجلالة" تتطلب التكوين الأكاديمي العالي، وإعادة التكوين والتدريب والتثقيف ، واليوم أصبحت مهنة تعج بمن هب ودب. فقط هاتف ذكي وقليل من الأدب وكثير من "السنطيحة" والجلوس بمقهى قصد الربط بالويفي، هي مقادير لوصفة صناعة صحفي هذا الزمن. ثم بعده التنقيب عن الفضائح ونشرها من دون تكليف النفس مشقة التأكد منها، أما إن استطعت الهرولة لتصوير شريط مباشر "اللايب" حتى وإن كان ضمن الحياة الخاصة للأفراد، فاعلم أنك تسلقت الققم التي لا تجارى في "الصحافة_السخافة"، وربحت السبق "السخفي" بين أفراد الجالية المغربية المقيمة بالفيسوك وباقي مواقع السوشل ميديا.

 

بين هذا وذاك، قد نتساءل عن أسباب هذا الهراء الذي باتت تتسم به مهنة الصحافة؟ وما مدى تفعيل آليات الرقابة والتحقيق في التجاوزات التي تضرب أخلاقياتها في مقتل؟ وأين قانون الصحافة والنشر من هذا التقهقر الغريب في الصحافة الرزينة والتناسل الفظيع في الصحفيين الفاقدين لأدبيات المهنة؟ ما مدى الجدية في احترام المعايير المعتمدة من لدن الوزارة الوصية في شروط فتح المقاولات الصحفية؟ ولك أن تتساءل أيضا عن ملف الدعم وكيفية أجرأته حتى لا يكون يفسد من حيث أراد أن يصلح؟

 

قبل أسابيع أظهرت لنا فاجعة الطفل ريان رحمه الله، مستوى صحافتنا وكيفية تعاطيها مع الأحداث والمستجدات. باستثناء الإعلام الرسمي أي إعلام القطب العمومي، وبعض المنابر التي تحترم نفسها. أما البقية الباقية بدت صحافة صفراء، تجري لاهثة وراء نسب المشاهدات وفي أحايين كثيرة تم اللعب على عناوين كادبة قصد استدراج نسب متابعات تبلغهم مآرب ربحية. فحين نقول بل نؤكد مسألة العنوانين الاحتيالية والكاذبة من قبيل "عاجل اللحظات الأخيرة قبل"، أو الترويج لأخبار يتم تفنيدها بعد ذلك. زد على ذلك عناوين ساقطة، من قبيل "شاهد قبل الحذف" على سبيل المثال لا الحصر، لفضائح، ومتابعات لعاهات مجتمعية يتم تقديمهم بصفة المؤثرين الاجتماعيين، وترويج الأكاذيب والأباطيل والتراهات من دون سابق تمحيص. فأين أخلاقيات المهنة، والصدق في الرسالة، والدور التنويري، وتحري المعلومة المشروطة في الصحفي.

 

حتى لا نضع كل البيض في سلة واحدة، فهناك صحافة وإعلام يؤدي دوره من الألف إلى الياء، وحلبة مهنة المتاعب مازال بها صحفيين محترمين للمهنة. منهم الصحافة الاستقصائية وصحافة البيانات، بل حتى الصحافة الصفراء هناك من يتمتع بجرعة ثالثة معززة ضد فيروس السخافة ومتحوراته من تفاهة وزندقة.

 

إن نسينا شيئا أو أهملنا الإحاطة بفكرة، فلا ننسى ولا نهمل تأكيدنا على ضرورة إنقاذ جسم الصحافة من تفشي فيروس التفاهة، وانتشاله من براثن النذالة، وإعادة قاطرة الإعلام إلى سكته الصحيحة. فالجانب القانوني مهم في هذا الباب، إلى جانب ضرورة تعزيز النصوص التشريعية في مسألة الصحافة والنشر. فإذا كان جون لوك من أشد منتقدي كل رقابة تحد من حرية الصحافة، إلا أنه يؤكد بل يعطي للقانون حق الفيتو في ضبط تلك الحرية وفق ضوابطها. أما المفكر الإنجليزي بلاكستون حين تحدث في هذا المجال، أكد على ضرورة معاقبة الصحفي الذي ينشر الأكاذيب لمساهمته في تزييف الوعي. في بلدنا صحفيون يستحقون جائزة نوبل للصحافة إن كان نوبل فكر في الصحافة ذات يوم، كما في البلد آخرون يتقاسمون معهم هواء المهنة يستحقون الديناميت الذي اخترعه...