الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: ديمقراطية أم ديمقراطيات

أحمد الحطاب: ديمقراطية أم ديمقراطيات أحمد الحطاب
بالنسبة لي، و هذا رأيي الشخصي، الديمقراطية واحدة، أي كلٌّ لا يقبل التجزئ. إما أن تكون أو لا تكون! و قد يقول قائل : "إذا كانت الديمقراطية كلاًّ لا يقبل التجزئ،" فلماذا جاءت في العنوان على صيغة الجمع؟
فعلا، الديمقراطية واحدة. وتفسيرها البسيط هو حُكم الشعب من طرف الشعب. وإن اختلفت مضمونا من بلد إلى آخر، فالجوهر يبقى ثابتا لا يتغير : حكم الشعب بنفسه (سيادة الشعب)، المساواة بين المواطنين و حرية الفكر والتعبير.
وبصفة عامة ودون الدخول في التفاصيل، تُعرّف الديمقراطية كنظام يحكم فيه الشعب نفسَه بنفسِه من خلال مؤسسات من صنعه من بينها الأحزاب السياسية، البرلمان، الحكومة، الخ. 
ولا داعي للقول أنه لا وجود للديمقراطية بدون تبني مبادئ أساسية من قبيل التحاور والتشاور والتبادل والتفاوض والنقاش و التفاعل، والتكامل، الخ. 
و استدامةُ الديمقراطية، بقاءُها وتطوّرُها، أمور رهينة بصفة وثيقة بتفعيل هذه المبادئ ما دام هدفُها هو ضمّ أغلبية الشعب (أو من يمثله) حول هدف، مشروع، برنامج، فكرة أو قضية، الخ. لكن...
لكن إذا أخضعنا الديمقراطية في هذا البلد السعيد لفحص مجهري دقيق، فسنرى أن لنا فعلا ديمقراطيات و ليس ديمقراطية واحدة، المتعارف على مدلولها دستوريا و كونيا. والغريب في الأمر أن الديمقراطية تسمح بتعدد الأحزاب بينما هذه الأحزاب تشوه وحدة الديمقراطية. بل إن هذا التشويه انتقل بواسطة الأحزاب إلى جميع مرافق الدولة من حكومة وبرلمان ومؤسسات دستورية وعمومية، الخ.
فأصبحنا نرى أن لكل فئة مشربا تنهل منه ديمقراطيتَها. فهناك مَن فصَّل ديمقراطيته على المقاس تمشيا مع أهوائه بعيدا عن مبادئه. و قد تكبُرُ الأجساد التي تحمل هذه الديمقراطية لكن هذه الأخيرة تحتفظ بمقاسها. و ليذهب إلى الجحيم كل مَن رأى أنها أصبحت ضيقةً بالنسبة لحجم جسمه. و هناك مَن يصيغونها ويبنونها بعناية فائقة لكنهم يضعونها في الثلاجة بمجرد الانتهاء من صياغتها. وهناك مَن يصيغونها حسب أهوائهم و يفرضونها على الآخرين. و هناك مَن هم مقتنعون بأن لهم ديمقراطية لكنها في نهاية المطاف، ديماغوجية. و هناك مَن لا يؤمنون بوجودها إلا من خلال مصالحهم. و هناك مَن يستنسخون ديمقراطيات غيرهم لكنهم ينسون بكل أريحية حسن استنساخها. و هناك مَن لهم ديمقراطية منفصلة عن دولة الحق و القانون و عن ربط المسئولية بالمحاسبة. و هناك مَن تنتهي ديمقراطيتهم مباشرة بعد غلق مكاتب الانتخابات. و هناك...
و هكذا، فإذا كان مفهوم الديمقراطية ثابتا لغويا، سياسيا، دستوريا و كونيا (من خلال المواثيق الدولية و على رأسها ميثاق الأمم التمتحدة)، فلقد استطاعت السياسة في هذا البلد السعيد أن تُغْرِقَه في متاهات بعيدا عن المصلحة العامة و طموحات الشعب و المجتمع.
و هذا يعني أن المشكلُ ليس في وحدة الديمقراطية أو في مختلف تأويلاتها. كل ما في الأمر، هو أن هذه الديمقراطية، كمفهوم اجتماعي، تتأرجح بين أنصار و خصوم.
فمن هم أنصار الديمقراطية؟
كل الأشخاص و فئات المجتمع من مختلف الشرائح الذين يؤمنون بالمواطنة الحقة و حب الوطن و يسعون للصالح العام و يتبنون السياسة بمعناها النبيل و يتشبّعون بالقيم السامية (عدل، إنصاف، نزاهة، شفافية، استقامة، صدق، إخلاص، أمانة، نكران الذات، تواضع، غيرية، التزام، تفاني،  إرادة، عزم، الخ.)، و لا يرضخون للمساومة و مُسلّحون بإرادة قوية و عزم حديدي لتحقيق ما يصبون إليه من أهداف و غايات لصالح البلاد.
و من هم خصوم الديمقراطية؟
هم مَن لا يؤمن بما يؤمن به الأنصار. و لكن إذا بدا لهم أن الديمقراطية ستحقِّق لهم حاجات في نفس يعقوب، فلن يتردّدوا و لو هُنيهةً واحدةَ في وضعها في الواجهة. و لكن بمجرد ما تتحقق لهم أغراضُهم، سرعان ما تعود حليمة إلى عادتها القديمة. إنهم في الحقيقة يخشون الديمقراطية لأنها لا تتلاءم مع نواياهم و أفكارهم و معتقداتهم. إنهم يعتبرون أنفسَهم أسيادا فوق الآخرين. إنهم يعرفون و الآخرون لا يعرفون. إنهم يدعون امتلاك الحقيقة و الآخرون مُجانِبون لها، الخ. فمن هم إذن خصوم الديمقراطية ؟ هم :
أصحاب المصالح غير المُعلَنة
أصحاب النّيات السيئة المُبيّتة
المُناهِضون للتّغيير
السّاسة السِّيَاسَوِيُون
المُتهافتون على كراسي السّلطة 
المتاجرون بحقوق النّاس
الراشون و المرتشون
الخائفون من صناديق الاقتراع
الخائفون من وعي الشعب
المتعالون على القانون و المتغطرسون
المتعودون على تزييف إرادة الشعب
المتعوّدون على الزبونية و المحسوبية
المستفيدون من الرّيع، الباحثون عن الاغتناء السريع و بأية وسيلة
المتلاعبون بسداجة الناس، الخ.
إنهم لا يؤمنون بدولة الحق و القانون و إن أَبوا إن يعيشوا فيها، فليس حبا فيها و لكن لتَربُّص الفرص التي تجعلهم يستفيدون منها.
و في نهاية المطاف، إن خصومَ الديمقراطية، رغم رفضِهم لها، فإنهم حوَّلوها و يحوِّلونها إلى مسرحية يتقنون لَعِبَ الأدوار فيها ببراعة فائقة.
و ما هو مُقلَقٌ، هو أن للديمقراطية أنصاراُ و خصوماً داخل الحزب الواحد! و الدليل على ذلك، كيف نُفسِّر الترحال الحزبي قبل الانتخابات و كيف نفسِّر الصراعات الطاحنة و المُخجِلة للوصول إلى رئاسات الجماعات الترابية علما أن الديمقراطية، بمعناها السامي، لا يتغيَّر مدلولُها من حزب إلى آخر!