غداة تفوه كوندوليزا رايس بمفهوم الفوضى الخلاقة حين كانت تتأهب للانتقال من مستشارة للأمن القومي إلى كاتبة للدولة في الخارجية الأمريكية سألت زميلا أمريكيا خبيرا بشؤون المنطقة العربية عن ماهية هذا المفهوم، وكيف يمكن تعريفه وبأي طريقة سيجري تنزيله ؟ ومن هم المقصودون به، وهل هناك استثناءات ضمنهم ؟
إن المفهوم مستوحى، كما قال، من نظرية اقتصادية للبروفيسور Joseph Schumpeter تحت اسم " الهدم الخلاقLa destruction créatrice " مفادها أن مواصلة أي تطور اقتصادي تتطلب استمرار عملية استبدال الأنظمة والتكنولوجيات القائمة بأخرى مخترعة حديثا أقدر على توفير المال وتسريع الإنجاز. وقد تبلور المفهوم سياسيا في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 نتيجة دراسات متعددة، عميقة ومتأنية كلفت بها أجهزة رسمية ومجموعة من المعاهد العلمية والجامعية بحثا عن السؤال الذي طرحه الرئيس الأسبق جورج بوش الابن لماذا يكرهوننا ؟ وكيف لأمريكا أن تتقي، كما ادعى، كل هذه الكمية من الحقد وتأمن وصول "الشر الشرق الأوسطي المستطير" إلى مواطنيها ومصالحها ؟
لم يكن سهلا الرد على السؤال بمصداقية وبعمق. كان ينبغي الرجوع إلى دراسة تاريخ المنطقة، وفحص كل ما كتب عن تركيبة المجتمعات العربية وكيف برزت الأنظمة التي تحكمها وتبلورت حدود الدول التي تشكلها، ناهيك عن سبر أغوار النزاعات التي عاشتها، والتي ما تزال تنخر كيان العديد منها. وقد توصل المهتمون والباحثون إلى خلاصات عديدة أبرزها :
*لا يجب بأي حال من الأحوال أن تظل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أسيرة أنظمة استبدادية، عصية على التحولات الديمقراطية، يختبئ قادتها حول خصوصية مزعومة ممثلة في ادعاء عدم استعداد المجتمعات لتقبل القيم الغربية، علما بأن معظم هؤلاء القادة تبنوا القيم اللبرالية في الاقتصاد والتجارة، واستفادوا هم كأفراد وعائلات منها. ولا يعقل أن يستعصي عليهم تطبيق قيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان إن هم رغبوا في ذلك.
هذه القناعة يقول محاوري هي التي قادت واشنطن إلى تبني نظام الجرعات الديمقراطية عبر اقتراح آلية منتدى المستقبل للتعجيل بدمقرطة ولو تدريجية لمجتمعات ظلت عصية على الديمقراطية، وأنظمة أبت التخلي عن سلطاتها وأسلوبها الأبوي في التعامل مع مجتمعاتها، ولم يقبل بعضها إلا ما يمكن تسميته ب"الدكتاتوقراطية" أي تغليف الاستئثار المطلق بالسلطة بواجهة ديمقراطية للزينة من خلال مؤسسات منتخبة فارغة المضمون وفرض وجوه سياسية شعبوية جوفاء عليها، ولكن ولاءها مضمون.
*إذا كان للمنطقة من خصوصية، فهي أنها طوال أزيد من قرن من الزمن، وهي تتسم بعدم الاستقرار، وغياب الثقة بين دولها، وبين المكونات الاجتماعية لتلك الدول نفسها. معظم النزاعات فيها حلت باستخدام القوة، وعند وجود نوع من التوازن في هذه القوة ظلت تلك النزاعات معلقة بلا حلول، وكلها ما تزال كذلك. ولدى تذكيره بأن الخلاف القطري البحريني حل بشكل حضاري عبر اللجوء إلى محكمة العدل الدولية رد بأن ذلك هو الاستثناء الذي يكرس القاعدة.
لم يخف محاوري قط أن إنشاء دولة إسرائيل زاد من حدة التوتر في المنطقة، وأضاف تطورا كميا ونوعيا لظاهرة العنف التي تميز تاريخ المنطقة، سيما وأن تواتر الهزائم العربية أمام الدولة العبرية كلف الأنظمة العربية القائمة كثيرا في شكل انقلابات بعض نجح وبعضها فشل، وكلها ساهمت في توسيع فجوة عدم الثقة بين الشعوب وحكامها من جهة، وبين هؤلاء الحكام فيما بينهم، كما بدا جليا في الخلافات العلنية التي شهدتها عدة قمم عربية، وفي محاولات الاغتيال التي تعرض لها بعضهم بتدبير من البعض الآخر.
إن فجوة عدم الثقة ستنتقل من العلاقات البينية بين الدول والأنظمة إلى داخل مجتمعات تلك الدول نفسها خصوصا بعد بروز التيارات الإسلامية التي جاءت تبشر بنهاية عصر الخذلان العربي، متهمة التيارات القومية واليسارية بالمسؤولية عن التردي الذي لحق بالأمة، ورافعة شعار الإسلام هو الحل، ساعية إلى استعادة عهد السلف الصالح، الذي سوقته وكأنه الفردوس المفقود.
وبنفس الصراحة التي عهدتها فيه لم يتردد محاوري في الإشارة إلى أن بلاده لعبت دورا كبيرا في صعود واشتداد عود تيارات الإسلام السياسي وتمكين بعضها بالدعم السياسي والمادي من الوصول إلى السلطة في أكثر من دولة، سيما وأنها استفادت كثيرا من هذه التيارات لمواجهة الغزو السوفياتي لأفغانستان، الذي عجل بانهيار الاتحاد السوفياتي السابق وتفككه إلى دول عديدة ؛ وأنها لمست لدى هذه التيارات نوعا من الاستعداد لمواجهة "دكتاتوقراطية" الأنظمة والقيام بإصلاحات سياسية وديمقراطية صحيحة.
لقد منحت ثورات الربيع العربي واحتجاجاته لواشنطن فرصة رائعة لدعم تيارات الإسلام السياسي، التي كانت أكثر القوى السياسية استعدادا وتأهيلا لقطف ثمار الحراكات الشعبية العفوية التي اجتاحت معظم الأقطار العربية نهاية سنة 2010 وبداية سنة 2011. ولكنها فشلت في ترسيخ تلك التيارات في الحكم، ولم تقو على منع القوى المعادية للإسلامين والتي سعت إلى إجهاض الثورات والاحتجاجات الشعبية داخليا وإقليميا في الانقلاب عليهم وإقصائهم عن السلطة بالقوة (حالة مصر وإلى حد ما ليبيا ) أو تحجيم دورهم وفق قواعد لعبة ديمقراطية هم شاركوا في وضعها ( حالة تونس ).
وحسب محدثي، فإن واشنطن لم تستسغ ذلك واعتبرته طعنة مباشرة لها، وأرسلت أكثر من إشارة مفادها أنها لن تقبل أبدا أن تسلم بغلبة منطق الاستبداد والرعية على مبدإ المواطنة والديمقراطية، مضيفا بأن أحداث الربيع العربي أظهرت أن الشعوب لم تمتلك بعد النفس الثوري الكافي لفرض التغيير المنشود، رغم قدرتها بتحركاتها الجماهيرية ذات الطبيعة المطلبية ( إضرابات واعتصامات قطاعية ) قادرة على إشاعو أجواء من عدم الاستقرار.
إن حالة عدم الاستقرار هذه هي التي تشتغل واشنطن الآن على تغذية عوامل استمرارها، ثم تعميمها ما أمكن في كافة أرجاء المنطقة. وقد وجدت ضالتها فيما أفرزته التطورات من تصفيات دموية بلا رحمة وبمحاكمات صورية مفبركة في معظم الحالات ؛ الأمر الذي اعتبرته الدوائر الأمريكية تأكيد على النزوع الغريزي الموجود لدى العرب نحو حل القضايا بالعنف، وهذا ما جرى ويجري النفخ فيه بمختلف الأساليب.
ولهذا يتعقد الزميل المذكور تبدو الولايات المتحدة الأمريكية المستفيد الأكبر من نكإ كل الجراح الممكنة في المنطقة الطافية على السطح منها، والكامنة في الأعماق، فالنزيف المتواصل يترجم صفقات سلاح متواصلة بالمليارات وتمدد نفوذ. وخير مثال ليست فقط الصفقات المبرمة مع دول الخليج ومعظم دول المنطقة، وإنما الوضع في سوريا أيضا. لقد كانت سوريا قبل الأحداث بعيدة عن النفوذ الأمريكي، وها هي واشنطن لديها موطئ قدم قوي وبأقل كلفة، فمحاربة الإرهاب الداعشي تكفل به التدخل الروسي، الذي يستنزف موسكو كثيرا.
لقد استطاعت واشنطن بدعم من عدد من القوى الدولية الغربية تمديد حالة عدم الاستقرار وتأجيج نيرانها في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتمكنت من أن تجر إلى أتون الخلافات والاصطدامات الواقعة فيها دولا أخرى يمكن ابتزازها هي الأخرى كتركيا وإيران. وبذلك عممت عوامل الشك والريبة لدى الجميع بمن فيهم حلفاؤها لدرجة بات عدد منهم يقفون في معظم الملفات على طرفي نقيض، بل وعلى أهبة الدخول في مواجهات عسكرية مباشرة ( حكومة بغداد والأكراد في العراق، أزمة الخليج بين قطر من جهة والدول الأربع من جهة اخرى ).
وبخلاف ادعاء البعض عدم وجود استراتيجية أمريكية للتعامل مع التطورات والمستجدات المتسارعة في المنطقة، فإن محدثي يرى أن واشنطن غير راغبة في بلورة استراتيجية ما. فالوضع الراهن وما يتسم به من غموض في المواقف وتقلب فيها، وتواصل إدارة الأزمات بدلا من السعي لحلها أو في أسوإ الظروف احتوائها هو الاستراتيجية المطلوبة نفسها، لأن الهدف هو استمرار فراغ القوة في المنطقة، وتآكل كياناتها من داخلها وبيد أبنائها بشكل يعظم المكاسب الأمريكية ومن خلفها الإسرائيلية دون خسائر مادية وبشرية تذكر.
هكذا تغدو الفوضى الخلاقة بما تشيعة من أجواء احتراب وعدم استقرار داخل دول المنطقة وفيما بينها هي أنجع الاستراتيجيات للتعجيل بإحداث التغييرات لدى "الدكتاتوقراطيات".
وبسخرية فيها الكثير من المرارة ختم محاوري حديثه بالإشارة إلى أن العرب كانوا يقولون "أنا وابن عمي على الغريب"، وها هم بعد شيوع العنف والاضطرابات يطبقون عكس المقولة "أنا والغريب على ابن عمي". فما كان مني إلا أن بهت لما سمعت، وما كنت من الذين كفروا.