الجمعة 20 سبتمبر 2024
كتاب الرأي

عبدالالاه حبيبي: عناصر ضرورية لفهم ما يقع: من العنف الأعمى إلى العنف المؤسس...

عبدالالاه حبيبي: عناصر ضرورية لفهم ما يقع: من العنف الأعمى إلى العنف المؤسس...

للعنف مصادر متعددة لكنها في العمق تتشابه وتتقاطع في نقطة أساسية وهي: أن العنف سلوك مرضي ناتج عن ذات مضطربة بدورها ضحية بيئة اجتماعية مفلسة أخلاقيا وفقيرة من حيث القيم الإنسانية والجمالية.

يتقوى العنف بالجهل ويتطور حينما يجد من يبرره ويشرعنه، أي حينما تسود ثقافة الهيمنة والقمع اجتماعيا، يصبح العنف جوابا طبيعيا على كل المشكلات التي هي في أصلها ناجمة عن غياب تقاليد الحوار والتفاهم.
العنف الأعمى هو السلوك المتحلل من كل معيار أخلاقي، أي أنه يمارس كحالة سائدة، لا يعي أصحابه أنه يؤذي ويقود الجماعة نحو التبدد والانهيار وبالتالي إلى الانقراض.
لهذا كانت البشرية بين خيارين: إما الفناء الجماعي بالاستمرار في حل كل مشكلاتها بالعنف أو اللجوء إلى أساليب عقلانية في فض الخلافات وتجاوز الخصومات، ولعل هذا ما حذا بمفكري عصر التنوير إلى بلورة نصوص رسخوا من خلالها ضرورة بناء الدولة المدنية التي تنهض بمهمة تحرير الإنسان من كل أشكال الوصاية والحجر والاستغلال، وجعله بالتالي محور كل التحولات والإصلاحات التي ستعرفها أوروبا انطلاقا من القرن السابع عشر .
لقد انتهى إذن زمن العنف الأعمى، وحل محله العنف الذي تفرضه القوانين ويكون مقيدا بمنظومة من الاحتياطات حتى لا يحيد عن الأهداف التي من أجلها تم اعتماده. أي ما يسميه ماكس فيبر بالعنف الشرعي التي تحتكره الدولة وتمارسه بمفردها تحت رعاية القانون وبانسجام مع منطق الحق والعدل والمساواة.
وفي سياق ضمان استمرار الدولة المدنية جاءت المدرسة لكي تعطى لها مهمة إعادة إنتاج القيم الإنسانية التي رسختها الثورات الفكرية والاجتماعية ونظَّر لها فلاسفة الأنوار، بمعنى أن المدرسة هي المؤسسة التي ستحتضن المشروع الأنواري، لتسهر على تنشئة الأطفال على قيم التسامح والعقل والحرية لحماية المستقبل من كل ردة نحو العنف الأعمى أو الفوضى اللامعيارية.
هذا الوضع كان مفيدا للعلوم الإنسانية التي انطلقت في تعميق البحث في الإنسان قصد التعرف عليه سيكولوجيا، تاريخيا، سوسيولوجيا، لسانيا، لأجل تحسين ظروف اندماجه في العالم الجديد الذي تقوده القيم التنويرية، أي مساعدته على فهم وتمثل ذاته والعالم المحيط به بطريقة عقلانية، واكتساب القدرات العقلية والمهارات العملية والقيم الجمالية التي تؤهله للمساهمة في تنمية نفسه وتطوير مجتمعه على كافة المستويات.
هكذا ستقوم المدرسة بالحد من غريزة التدمير، وستحسن الأداء العقلي لدى مرتاديها، بل ستقوم بتخريج أفواج من المفكرين والعلماء والفنانين والسياسيين الذين سيقومون بتجديد مجتمعاتهم، وتطوير أساليب تدبيرها، بالانفتاح دوما على مكتسبات العلوم الحقة والعلوم الإنسانية.
في خضم هذا التفاعل الكبير ستحتل البيداغوجية موقعا رياديا باعتبارها تشكل ملتقى كل العلوم وكل التخصصات، بنتائجها ونظرياتها سيتم تدبير العلاقة التربوية وتحقيق الأهداف التي تحدثنا عنها سابقا. بهذا المعنى فالبيداغوجيا هي خطاب يرفع من درجة فهم المتعلم، ويساعد المدرس على تكييف أساليبه التدريسية بما يستجيب لخصوصية المتعلم وحاجياته المعرفية والمهارية. بالبيداغوجية تم كنس العشوائية والمزاجية من الفصل الدراسي، وبها تم تنظيم العملية التعليمية وتقوية مرتكزاتها العلمية خارج كل تحكم مزاجي أو تسلط إداري فوقي. لهذا ليس غريبا القول أن البيداغوجية هي نقيض مبدأي ضد كل سلوك عدواني. بها يصبح العنف مستبعدا، والتصادم نادرا بين المعلمين والمتعلمين.
لكن المدرسة التي تم استنباتها في مجتمعات خارج هذا التاريخ، وفي بيئات ثقافية أخرى لم تكن لها نفس الدينامية ونفس المسار. مدرسة الدول الناشئة بعد حركات التحرير الوطني كانت لها غايات أخرى وسياقات سياسية مختلفة. ارتبطت بدايتها بالحاجة للأطر البديلة لتأخذ مكان العناصر الأجنبية، ولتكون قاعدة لبناء أسس الدولة المستقلة. أي مدرسة لتخريج أطر الإدارة الترابية وأجهزة الدولة الأمنية والعسكرية. ولعل هذا ما حكم عليها بأن تظل سجينة هذا المنحى لسنين طويلة حتى طالتها الأزمات المركبة.
مدرسة الاستقلال هي مؤسسة ظرفية، امتزجت فيها عناصر حضارية مختلفة، بل أحيانا متناقضة بين ماهو محلي وماهو كوني، تفاعلت فيها اتجاهات فكرية وسياسية أحيانا متناقضة من حيث المرجعيات والتوجهات المستقبلية، لهذا بات من المنطقي أن تكون حبلى بإمكانيات الأزمة والانحسار.
دون الدخول في تفاصيل هذه المعضلة نريد التركيز هنا فقط على كيف ارتبط العنف المؤسس بهذه المدرسة وأصبح إحدى وسائلها في ضبط السلوك وتقويم الاعوجاج وقيادة ضمير المتعلمين والمعلمين معا نحو أهداف محددة.
نقصد هنا بالعنف المؤسس ذلك الأداء الذي يغلق باب التفكير الجدي والمسؤول في أسئلة المآل، وتلك الأساليب المعتمدة في مواجهة الاعتراض والتفرد والاستقلالية في معالجة أمور التربية والتنشئة والتكوين. أي تلك المنظومة من القيم والأفكار والنزوعات المشبعة بقوة السلطة بدل منطق الحرية والاختلاف في تدبير السلوك الإنساني وحاجيات الفرد المادية والمعنوية.
وعلى خلاف مدرسة التنوير ستعتمد مدرسة الدول الناشئة على مخزونها الحضاري في بناء ما يسمى تجاوزا العلاقة التربوية، وذلك انطلاقا من قناعة إيديولوجية مفادها أن الضبط هو الضمانة الكفيلة للحد من فوضى الحواس، ومتطلبات الذات التي ينبغي لها أن تكون في خدمة الجماعة وثقافتها الأصلية. أي إبعاد كل العناصر الفكرية والسلوكية التي من شأنها تهديد استقرار المجتمع وانسجامه عقديا وقيميا .
في هذا السياق سيولد العنف المؤسس الذي ليس مطابقا للعنف الأعمى السابق على الدول المدنية، بل في بنية الدول الصاعدة كانت بنية العنف المؤسس قائمة لكنها كامنة. على هذا المنوال ستتأخر البيداغوجية عن الظهور في مدرسة الدول القادمة من زمن الاستعمار، بل سيتم تكييفها أحيانا مع متطلبات العنف المؤسس ثقافيا والسائد كلغة للتنشئة الاجتماعية وذلك بهدف تحييد آثرها التحريرية والتحررية باعتبارها وليدة العلوم الإنسانية ولازمة طبيعية لمجتمعات الحداثة الفكرية. في ظل هذا الخيارات الظرفية ستظل المدرسة تراوح تقاليد تربوية ماضوية تارة، والانفتاح المراقب على مكتسبات العصر تارة أخرى، بمعنى لن يسمح لها بأن تؤسس خطابها على مسلمات الخطاب البيداغوجي المعاصر ورهاناته القيمية والفكرية والسلوكية.
هناك انفلاتات نسبية استطاعت فيه هذه المدرسة أن تحقق إشراقات بإنتاجها لنخبة متعلمة استطاعت أن تقود حركات فكرية وسياسية في مرحلة التصادمات الكبرى بعيد الاستقلال لكنها كانت محكومة بحتمية الانحسار بدليل غياب الرؤيا البيداغوجية الواضحة، والخيار السياسي التنموي الحاسم مع التبعية والنزوعات الماضوية على صعيد المجتمع والدولة ككل.
لهذا ليس غريبا أن يتأجج العنف المؤسسي، الذي هو رديف هذه الهشاشة البيداغوجية، وصنيع المنظومة الاجتماعية السائدة خارج المدرسة إلى اليوم. التردد في حسم الاختيارات يقوي هذا الميول، ويوجد الأرضية النفسية التي تسمح له بأن يتغذى ويتناسل من داخل المؤسسات التربوية.
عندما يختل التوازن بين القيم اجتماعيا، ويميل الأمر لصالح قيم تمجد الماضوية في لغة عنيفة وساذجة، وعندما تتحالف هذه النزعة مع الدعوة لتمجيد المال والشهرة والنجاح المبني على المكر والنصب والتحايل، أي تبخيس قيمة العمل والمجهود المشروع، تصاب التربية بعطب قاتل، وتصبح المدرسة هي المجال التي تتمظهر فيه هذه التناقضات في شكل صارخ ومدوي. لهذا فعلاج العنف المدرسي يتطلب بالضرورة معالجة العنف المؤسس في البنية الثقافية للمجتمعات الغارقة في هذه المعادلة الصعبة...