الثلاثاء 19 مارس 2024
كتاب الرأي

سعيد توبير: المغرب ورهانات الحوار مع إسبانيا

سعيد توبير: المغرب ورهانات الحوار مع إسبانيا سعيد توبير

من أهم الدروس البيداغوجية المستفادة من "المنهج التاريخاني" الذي اشتهر به المؤرخ والمثقف المغربي عبد الله العروي: هو أننا لا نستطيع فهم حقيقة "الراهن المغربي" اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، دون العودة إلى دراسة الجذور التي غالبا ما تكون عميقة ومتشابكة. ويقصد بذلك أن ما نعانيه اليوم من مفارقات (غياب الثقافة الديمقراطية، صعوبة ربط التنمية المستدامة بتجديد النموذج التربوي، واقدار الاقتصاد الوطني على تنافسية التجارة الدولية، واستكمال وحدته الترابية للتفرغ لتحديات تطوير البحث العلمي والتفاعل الواعي مع تأثيرات فورة الرقميات ومكتسبات الذكاء الصناعي، والاستجابة العقلانية والاستراتيجية للقضايا الحارقة اجتماعيا واقتصاديا وتربويا)، له علاقة مباشرة بظاهرة بالاستعمار أو ما يسميه هو في تحليلاته بـ "التدخل الأجنبي".

 

وعليه، فإن الأطروحة الرئيسة الذي نسعى الى المرافعة عليها تتأطر ضمن أفق "ثقافة وطنية جديدة"، يستدعيها الاستشعار السياسي والثقافي الحادين باستهداف المغرب في كفاحه من أجل النهوض الشامل والسيادة الكاملة على ترابه التاريخي. وبالتالي، ترتد هذه "الأخيرة" تلقائيا الى إعادة القراءة والنبش في تاريخ مقاومة المغاربة للخطر الاجنبي الذي ارتبط بالمد الإيبري خلال القرن الخامس عشر وما قبل وما بعد الاحتلال المزدوج "الفرنسي – الإسباني". وبالتالي تجد نفسها "الوطنية الجديدة" حريصة على التعبئة الجماعية الممنهجة اعتمادا على وثائق و نصوص تاريخية لشحذ همم الرأي العام لصالح قضايا الوحدة الترابية، والتفاني في حماية حدود البلاد وإعلاء شأن السيادة الوطنية والثقافة المشتركة والافتخار بماضي الحضور المغربي العربي الإسلامي في العصر الوسيط في إسبانيا عمرانيا، علميا، فنيا، أدبيا وفلسفيا .

 

وفي هذا السياق يعتبر صاحب "الأصول الاجتماعية والثقافية للحركة الوطنية 1830.1912 أنه علينا نحن "المغاربة" أن نتصرف كسكان جزيرة "مطوقة "، بحيث لا يمكن ان ننفي الجغرافيا. بدليل أن رسم خريطة المغرب 1956، حسب موقف الزعيم "علال الفاسي" فور عودته من المنفى لا يضم سوى خمس "تراب المغرب التاريخي" مع اقتطاع غير مسبوق في تاريخ المغرب القريب لكل من تندوف/ توات/ تيديكلت/ الساقية الحمراء/ شنقيط وطبعا سبتة ومليلية والجزر الجعفرية.

 

وعليه فإن روح "الوطنية الجديدة" تلتصق جذريا بالمتابعة الدقيقة لتفاعلات ملف "الصحراء المغربية" إقليميا ودوليا ووطنيا، والذي خفت حضوره في تحليلات واهتمامات أغلب المثقفين والفاعلين السياسيين في السنوات الأخيرة.

في حين لاحظنا أنه منذ اعتلاء العاهل المغربي عرش المملكة بدأت الخطوط الاستراتيجية للديبلوماسية المغربية تجنح نحو الإصلاح العميق والتصويب المنهجي لمقاربة قضية الوحدة الترابية "الصحراء المغربية"، والتي أعطت لها نفسا جديدا بالارتكاز على عدد من الأولويات ضمن استراتيجية واضحة المعالم، من شأنها إعادة رسم الطريق السياسي الجديد.

وبالتالي، شكل اقتراح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كحل واقعي وقابل للتطبيق أولى أولويات المقاربة الجديدة، ما أدى بالإدارة الأمريكية إلى دعم المغرب ودفع بالأمم المتحدة إلى إقحام الجزائر وموريتانيا في المفاوضات، بعد أن كانت تروج لأطروحة كاذبة مفادها أن الجزائر هي فقط حاضنة للاجئين وليست طرفا في النزاع.

 

وأما اليوم فإن المتغير الذي تحكمه مقتضيات فتوحات عودة المغرب الى "بيته الإفريقي"، بناء على شراكات اقتصادية واقعية وبرامج اجتماعية عملية وتربوية مع عدد من الدول الإفريقية الصديقة، قد أدى في النهاية إلى اعتراف الادارة الأمريكية بمغربية الصحراء، اعتراف أربك تحالفات عدد من الدول الاوربية في علاقاتها بالجزائر، وأصبحت لا تستطيع اخفاء عدوانيتها تجاه المغرب. هكذا يجد الراهن المغربي نفسه في مواجهة تهديدات الجوار الجغرافي والسياسي، وتبين أن الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء قد كشف حقيقة "إسبانيا" العدوانية والاستعمارية.

 

تؤكد الوقائع على أرض الواقع أن إسبانيا لم تعد قادرة على إخفاء عدائها للمغرب عندما تستقبل زعيم البوليساريو بلا حشمة تاريخية أو حياء سياسي جغرافي، في استفزاز سافر لمشاعر مغرب "المسيرة الخضراء".

 

وفي هذا السياق العدائي تجاه استكمال المغرب لوحدته الترابية تذهب صحيفة "الباييس" في أحد مقالاتها البئيسة، إلى أن السبب الحقيقي وراء الأزمة هو رغبة الرباط في دفع إسبانيا إلى تبني موقف واضح في نزاع الصحراء بدعم الحكم الذاتي. والحال هو أن المغرب قد عبر بشكل رسمي عن أسفه لموقف إسبانيا التي استضافت على ترابها إبراهيم غالي، المتهم بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان؛ ويراهن الإسبان على تهدئة الوضع مع المغرب، خصوصا بعد فشل مساعي إقناع الإدارة الأمريكية بالتراجع عن الاعتراف بمغربية الصحراء وكذا غياب الإدانة الملموسة أوروبيا لموجة الهجرة غير الشرعية صوب سبتة.

 

ندعو النخب السياسية الاسبانية إلى لغة الحوار والتفاوض على قاعدة الندية وتكافؤ الفرص والتنافس الرشيق، بحيث تثبت التجربة أن هناك من القواسم المشتركة بين البلدين لا يمكن اقصاؤها في أي تحليل. ذلك أن التجاور الجغرافي هو حتمية فيزيائية لا يمكن إلا أن تكون من عوامل خلق مساحات الحوار والاتفاق والتفاوض حول المصالح المشتركة، كما أن التجربة التاريخية العربية الاسلامية في الأندلس العربي قد تشكل فرصة تاريخية لإغلاق صفحات أحداث الماضي المأساوية والجنوح نحو الشراكة العادلة و التقارب بين الشعبين.

 

الواقع هو أن المغرب لن يتخلى على وحدته المركزية وسيظل شوكة في حلق الأطماع الاستعمارية القديمة والحديثة. أليس من حقه أن يستعيد ترابه التاريخي؟ إذ المغرب آخر دولة استعمرت وأول دولة استقلت في الشمال الإفريقي. وغني عن التعريف بشراسته في المقاومة لكل أنواع التدخل الأجنبي أكان إسبانيا أم فرنسيا.

 

على النخب السياسية والمتتبعين الإسبان للشأن المغربي أن يغيروا نظرتهم العامة إلى مستقبل المغرب، على أساس أن أزمنة الهيمنة والاستعمار قد ولت. وأن المغرب تمتع بالسيادة السياسية مبكرا في ترابه التاريخي دون الترامي على أرض الجيران. عليها أن تساعد المغرب على استرجاع ترابه التاريخي الشرعي والقانوني لخلق امكانيات التعاطي الايجابي مع مشاكل الهجرة والتهريب والإرهاب، مع الوعي بأن المغرب قادر على تغيير شركائه الاستراتيجيين وأسواقه التجارية بحكم الإرادة الوطنية الواعية بمصالح الأمة ومستقبلها في احترام تام للقيم الدولية والكونية.