الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

أنس سعدون: قراءة أوّلية في مسودة مشروع قانون التفتيش القضائي

أنس سعدون: قراءة أوّلية في مسودة مشروع قانون التفتيش القضائي أنس سعدون
نشرت وزارة العدل عبر موقعها الرسمي مسودة مشروع قانون التفتيش القضائي الذي يأتي بعد طول انتظار ليتمّم المستجدّات التشريعيّة المتعلّقة بإصلاح منظومة العدالة والتي تُوّجت بصدور قوانين السلطة القضائية، ومدونة الأخلاقيات القضائية، وقانون رئاسة النيابة العامة، في وقت ما تزال فيه قوانين أخرى تنتظر التنقيح لملاءمتها مع مستجدات الدستور.
المشروع الجديد يتكوّن من مذكرة تقديم، ومن 05 أبواب موزّعة على 36 مادة. خصص الباب الأول لأحكام عامة، والثاني لتأليف المفتشية العامة، والثالث لاختصاصات المفتشية العامة وقواعد تنظيمها، والرابع للحقوق والواجبات، بينما خُصّص الباب الخامس والأخير لمقتضيات ختامية.
المفتش العام وأطر المفتشية
تطبيقا للمادة 53 من قانون المجلس الأعلى للسلطة القضائية، يعين المفتش العام بظهير من الملك من بين ثلاثة قضاة من الدرجة الاستثنائية، باقتراح من الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية بعد استشارة أعضائه لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، غير أنه يمكن وضع حد لهذا التعيين قبل انصرام هذه المدة[1].
ومن خلال هذا المقتضى، يُلاحظ أنّ مسودة المشروع الجديد انتصرَتْ لمنهجيّة التعيين المباشر عوض فتح مجال التباري حول منصب المفتشيّة العامة على خلاف مناصب الإدارة القضائية وبعض المهام. كما يُلاحظ أنه تمّ إغفال وضع شروط موضوعيّة في طريقة تعيين أطر المفتشية حيث تمّ الاقتصار على شرط أقدمية معينة، والسلطة التقديرية الواسعة لجهة الاقتراح والتعيين، والخبرة التي لم يتم تحديدها بعناصر واضحة.
في نفس السياق، يلاحظ أن المشروع لم ينصّ على أداء المفتّش العامّ المعيّن لقسم التعيين على غرار باقي أطر المفتشية.
طبيعة جهاز المفتشية 
من المعلوم أنّ طبيعة جهاز المفتشية العامة للشؤون القضائية يتحدد طبقا لأحكام الدستور والقوانين التنظيمية للسلطة القضائية. وفي هذا السياق، نصّ الفصل 116 من الدستور على أنه “يساعد المجلس الأعلى للسلطة القضائية، في المادة التأديبية، قضاة مفتشون من ذوي الخبرة..”. كما نصّ القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في المادة 53 منه على إحداث مفتشية عامة للشؤون القضائية وتعيين المفتش العام وترك للقانون العادي مسألة تنظيمها وتحديد حقوق وواجبات أعضائها.
وبالرجوع إلى مضامين المسودة، نلحظ أنها كرست استقلال المفتشية العامة للشؤون القضائية عن وزارة العدل. لكنها أسّست بالمقابل لعمل هذا الجهاز كمساعد للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، حينما نصّت وبشكل صريح على أنّ المفتشيّة العامة من الهياكل الإدارية للمجلس، وتتبع له في أداء مهامها، كما أن بنياتها الإدارية تحدد بقرار من الرئيس المنتدب يعرض على تأشيرة السلطة الحكومية للعدل.
تحديد مجال عمل المفتشية
حدد مشروع القانون الجديد مجال عمل المفتشية فيما يلي:
– التفتيش القضائي المركزي للمحاكم رئاسة ونيابة؛
– تنسيق وتتبع التفتيش القضائي اللامركزي والذي يقوم به المسؤولون القضائيون على مستوى كل دائرة؛
– دراسة ومعالجة الشكايات التي تحال من طرف الرئيس المنتدب، والقيام بالأبحاث والتحريات اللازمة في المادة التأديبية بما في ذلك تلك المتعلقة بثروات القضاة؛
– إعداد دراسات وتقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة.
ويلاحظ بهذا الخصوص أن الإصلاحات القضائية بالمغرب تتجه إلى إحداث مفتشية عامّة مستقلّة عن وزارة العدل تختصّ بالشؤون القضائية، تعمل إلى جانب المفتشية العامة التابعة للسلطة الحكومية المختصة التي بقيت لها صلاحيات تفتيش موظفي المحاكم في المجالين الإداري، والمالي بما يحترم استقلال السلطة القضائية. وقد نصّت المادة 34 من المسودة على إمكانية إنجاز مهمة تفتيش مشترك بين الجهازين المذكورين كلّا في مجال اختصاصه على أن يتم إعداد تقريرين منفصلين عن هذه المهمة.
حقوق وواجبات أعضاء التفتيش
بالرجوع إلى الباب الرابع من مسودة مشروع قانون التفتيش القضائي الذي خُصِّص لحقوق المفتشين وواجباتهم، يُلاحظ أنّه اقتصر في مجال الحقوق على الجانب المادي حين نصّ على تقاضي المفتّش العام ونائبه وباقي المفتّشين تعويضا عن المهام الموكولة إليهم، يحدد بقرار من الرئيس المنتدب. في المقابل، لم يتضمّن أيّ مقتضيات تكرّس ضمانات استقلالية المفتّش العامّ وأطر المفتشية في أداء عملها، ما عدا تلك المتعلقة بسلطة التحرّي الشاملة التي يملكها الجهاز للاستماع لأي شخص ولأي جهة والحصول على أي معلومة، دون إمكانية الاحتجاج بالسر المهني.
كما لم يتضمّن المشروع أيّ مقتضى كفيل بتحقيق مبدأ ثبات المنصب القضائي للمفتش العام كأحد أهم مقومات استقلال القضاء، حينما نص على إمكانية وضع حدّ لمهامه قبل نهاية مدة ولايته، دون تحديد وتدقيق الحالات والضمانات القانونية. وهي ذات الملاحظة بخصوص بقية أطر المفتشية من نائب للمفتش العام ومفتشين ومفتشين مساعدين، حيث نصّ المشروع على طريقة تعيينهم دون تحديد ضمانات لهم أثناء عملهم وعند إنهاء مهامهم[3].
أما في مجال الالتزامات، فقد اقتصرت المسودة على التنصيص على واجب وحيد متمثل في عدم إفشاء المعلومات والوثائق التي يقع الاطّلاع عليها بمناسبة مزاولتهم لمهامهم، وبقاء هذا الالتزام قائما حتى بعد انتهاء مدة عملهم، تحت طائلة المساءلة.
حقوق القضاة 
مند انطلاق الحراك القضائي في المغرب، تمّ رصد مجموعة اختلالات في عمل المفتشية العامة، من قبيل حرمان القضاة من حقوق الدفاع أمامها، سواء تعلق الأمر بالحقّ في مؤازرة محام، أو حقّ الحصول على نسخة من محضر الاستماع، أو استدعاء المفتشية ومعرفة موضوع الاستماع، أو الحقّ في استنساخ وثائق الملف. وفي حين كان جهاز المفتشية العامة يستند على تبرير واحد وفريد وهو غياب إطار قانوني يوفر هذه الحقوق، أغفلتْ مسودة المشروع الجديد بدورها التنصيص عليها، رغم أنها تعتبر بطبيعتها بديهية لارتباطها بحقوق الدفاع المنصوص عليها في صلب الدستور وبضمانات المحاكمة التأديبية العادلة التي تتصف بالكونية.  وغنيّ عن البيان أن الفقرة 5.1 من الشرعة الأوربية حول نظام القضاة تنصّ على الطابع الوجاهي للمحاكمة التي يستند إليها حكم تأديبي، وإلى حق القاضي بمحام في إطار ممارسة حقه بالدفاع. ويشير كذلك المبدأ VI-3 من توصية لجنة وزراء المجلس الأوربي رقم 12(94) R إلى ضرورة أن يحدّد القانون أصولا مناسبة للملاحقة القضائية تحترم مقتضيات المحاكمة العادلة المكرسة في الشرعة الأوربية لحقوق الإنسان، بدءا بالمحاكمة في آجال معقولة والتواجهية وحقوق الدفاع. وتؤكد التوصية رقم 12(2010) R على ضرورة توفير جميع الضمانات لمحاكمة تأديبية عادلة. ولعلّ هذا الإغفال في التنصيص الصريح على هذه الضمانات سيؤدي إلى استمرار عدم تمتيع القضاة بهذه الحقوق أمام المفتشية العامة اعتمادا على نفس المبرر.
المقاربة التشاركية
بحسب تقرير رئاسة النيابة العامة، يُلاحظ أنّها قدمت ملاحظات حول مسودة مشروع قانون المفتشية، طالبت من خلالها تنظيم قنوات للتواصل بين المفتشية العامة ورئاسة النيابة العامة فيما يتعلّق بتفتيش قضاتِها ولاسيّما التفتيش المركزي. وقد هدفت من خلال ذلك إلى السماح بإشراكها في تحديد برامج التفقد السنوي للنيابات العمومية وإلى إجراء المراقبة على أساس معايير عمل النيابة العامة المتمثلة أساسا في الالتزام بالقانون والتعليمات القانونية والكتابية، وتحديد أولويات المراقبة بما يتلاءم مع تنفيذ السياسة الجنائية، ورفع التقارير المنجزة بهذا الخصوص حصريا لرئاسة النيابة العامة، وذلك في اطار تصور يهدف إلى إحداث بنية خاصة بالتفتيش تابعة لرئاسة النيابة العامة.
من جهته سبق لنادي قضاة المغرب أن قدم توصيات عامة حول التفتيش القضائي، دعا فيها الى:
•إقرار آليات لضمان الفصل بين عمل المفتشية والهيئة التأديبية وهي حصرا المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
•إقرار مبادئ الحكامة وربط المسؤولية بالمحاسبة فيما يخصّ تعيين المفتش العام والمفتشين مع إلزامهم بالخضوع للتكوين وخصوصا التكوين على التشبّع بثقافة حقوق الإنسان واستقلال السلطة القضائية والتخصص المهني.
•إقرار آليات لضمان قيام المفتشية العامة بدور توعوي تأطيري غير مباشر عن طريق تقارير دورية على حالة المحاكم ولقاءات وأنشطة في مجال التفتيش القضائي إضافة إلى دورها الأصلي مع بيان حدود التفتيش ووسائله.
•تكريس مبادئ الشفافية والجودة والالتزام بالقانون من طرف المفتشية.
•تكريس معايير موضوعية لاختيار هيئة التفتيش من ناحية التكوين والأخلاق والحيدة.
•تحديد مسطرة التباري على عضوية هيئة التفتيش المركزي والتسلسلي.
•ضبط علاقة التفتيش التسلسلي بالتفتيش المركزي مع تخويل التفتيش التسلسلي لهيئة جماعية مشكلة من خيرة قضاة محاكم الاستئناف تختارهم الجمعية العمومية للمحكمة
•اقتصار التفتيش على ما هو أخلاقي ومهني وإداري من مساطر وإجراءات دون الجانب القضائي المتصل بالحكم القضائي الذي يخضع لمراقبة محكمة النقض.
•تكريس دور التفتيش القضائي في دعم التكوين المستمر للقضاة ونشر الممارسات القضائية الفضلى.
ملاحظات ومقترحات أخيرة
بخصوص مذكرة تقديم المشروع، يلاحظ أنها اقتصرت على المرجعية الوطنية المتمثلة في الدستور والقانون، وأغفلت المعايير الدولية والملاحظات الأممية التي وجهت الى المغرب.
بخصوص مضامين المسودة، يلاحظ أنها ركزت على الجانب التقني وأغفلت جوانب أخرى تتعلق بالمفهوم الجديد للتفتيش القضائي الهادف لجعل التفتيش التسلسلي والمركزي على حد سواء، أداة ناجعة وفعالة ليس لتعقب الأخطاء وإقامة الدليل، بل أداة لتعزيز ملكة الاقتراح والتأطير، مع التقيد التام بمبدأ استقلال القضاء لينهض بدوره المتمثل في التشخيص وتقديم مقترحات وحلول واضحة تقييما ومراقبة، للرفع من مستوى أداء سير المحاكم وحماية حقوق المتقاضين باعتباره جوهر وهدف العملية القضائية.
وأخيرا، وأمام عدم شمولية قانون التفتيش القضائي، فإن ذلك يستلزم ضرورة توسيع دائرة المشاورات حول هذا المشروع على المستوى القريب، والتفكير أيضا في تدعيمه بدلائل استرشادية مساعدة من قبيل ميثاق أخلاقي لنظام التفتيش ودليل للقاضي في مرحلة التفتيش، والحرص أيضا على شفافية مؤسسة التفتيش القضائي من خلال نشر تقاريرها للعموم.